بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/05/29

حوار مع المخرج محمد الزرن


ظلام قاعات السينما جزء من ظلام العقول...

نادرا ما طوّقتني حالة من الارتباك واللاتماسك اللغوي أثناء تدبيج مقدمة احد الحوارات التي أنجرتها في السابق، ومرد ذلك الارتباك يتأتى غالبا من طبيعة شخصية محاوري أو من خلال المتن الذي يقدمه ضمن أجوبته... وكنت دائما، أمام تلك المواقف النادرة، أصاب بيأس كبير من جحود اللغة وعجزها عن إفاضة تقديم المفردات والعبارات... فأراني ألوذ بسيرة محاوري تفاديا لتهدّل اللغة أمام فورة محاوري وهروبا من الحروف الشاحبة أمام نضارة نقاط وفواصل كلامه...
المخرج السينمائي محمد الزرن صاحب أفلام «كسّار الحصى» (1989) و «يا نبيل» (1993) و «السيدة» (1996) و«نشيد الألفية» (2002) وفيلم «الأمير» (2005) الحائز على أكثر من15 جائزة دولية... تناسلت فواصله وحروفه بين تعاريج اللغة... بين المصطلحات والأفكار... الجوائز... الأفلام... شارع الحبيب بورقيبة... الإرهاب... جرجيس... الموزعين... ظلمة القاعات... الكاريكاتور... أوسكار وايلد... الصغير أولاد أحمد... العولمة... التعليب... الحرية... جرجيس... الخيال... الأحلام... الطاهر وشمعون... أفريكا آر... البترول... والمفارقات...
كلها تناسلت وتقاطعت ضمن هذا الحوار مع محمد الزرن بعد إنهائه تصوير فيلمه الجديد منذ أيام.

* فيلمك الطويل الأخير «الأمير» كان ـ ولا يزال ـ له حضور عالمي وتم توزيعه بشكل كبير، وقد نلت به عدة جوائز دولية، وكان بالامكان أن يحصل على التانيت الذهبي في أيام قرطاج السينمائية لسنة 2005 لو لم يتم استبعاده في المسابقة الرسمية؟
ـ استبعاد الأمير من المسابقة الرسمية كان قرارا غير وطني لأن سنة 2005 كانت سنة الاحتفال بمرور 25 سنة على أيام قرطاج السينمائية، وبالتالي كان على مدير المهرجان ولجنة تنظيمه أن يفكروا في قيمة الحدث ويبرهنوا أكثر على حضور السينما التونسية. وبما أن الفيلم كان له حظ كبير في نيل إحدى جوائز تلك الدورة تم استبعاده وإقصاؤه لأغراض شخصية بحتة. ولأني كمخرج سينمائي كنت دائما ـ ومازلت ـ أشق طريقي بمفردي فكان سهلٌ جدا أن يستبعدوني.
ومع ذلك الفيلم تم اختياره ليمثل تونس في اغلب المهرجانات الدولية. فما رأيك في هذه المفارقة!!!
فيلم الأمير شارك في مهرجان وغادوو ونال جائزة أحسن تركيب، ونال جائزة أحسن ممثل في مهرجان وجدة وتم توزيعه في فرنسا من طرف أفضل شركة توزيع لأفلام الكتّاب العالميين مثل «فين فندارس» و«وان كارواي» وعند توزيعه في القاعات السينمائية بعد ركود عشر سنوات ورفض الموزعين التونسيين لتوزيع الأفلام الوطنية، أحدث فيلم الأمير نقلة نوعية في السينما التونسية وصارح الجمهور مع القاعات، ولن أبالغ إن قلت أن فيلم الأمير هو الذي منح الثقة من جديد للموزعين لترويج عدة أفلام تونسية كانت مركونة في المخازن.
*على ذكر فيلم الأمير لماذا قدّم محمد الزرن صورة المثقف بتلك الطريقة الكاريكاتورية الساخرة؟
ـ الكاريكاتور أعتبرها من أهم الوسائل التي ترفد الصورة السينمائية. عبر المشهد الكاريكاتوري يمكنك أن تستفز المشاهد وان تثير فيه نقاط الاستفهام التي يجب أن يثيرها. الكاريكاتور تجسد ما هو غير مرئي.
في فيلم الأمير المثقف يعاني من وطأة العولمة، والمثقف المهموم بترويج الثقافة، الثقافة التي هي أكسجين الإنسان أينما كان. الثقافة اختنقت والأكسجين انحسر. ربما لأن الثقافة لا تملك النجاعة والمردودية الآنية بلغة العولمة طبيعي أن تحتضر. أنا لا أنظر لاحتضار الثقافة أو موتها بالعكس أنا أصرخ أمام هذا الوضع في وجه كل مثقف أن ينتبه وان يتلمس النور في داخله ويفكر في أساليب مواجهة مصائب العولمة وأخطرها الدغمائية الدينية والأصولية المادية.
هناك حدود وحواجز تُرفَع بين الشعوب ووحدها معاول الثقافة القادرة على هدم الحواجز واختراق الحدود، الإرهاب اليوم صار سوقا للربح، صار موردا للتمعش من ثروات الشعوب والأمم.
*إذن هل ننتظر فلما لمحمد الزرن يعالج ظاهرة الإرهاب بشكل مباشر ان صحت العبارة؟
ـ الإرهاب! أتمنى أن أعالجه سينمائيا ولكن ليس بالصورة التي تُروّج اليوم. الإرهاب يشغلني يوميا، لأنه كظاهرة وكمصطلح تشعّب جدا، وأنا أفكر جديا في كتابة سيناريو أعالج ضمنه الإرهاب من الزوايا المستعصية على الفهم والتحليل. أريد أن اكتب ظل الإرهاب وأصور ما هو قابع في ظل ظله.
*لنعد إلى فلم الأمير الذي شرّعت فيه أبوابا واسعة للحلم، وقد قلت أثناء تقديمك لأول عرض له أن من لا يحلم لا يمكنه أن يفكر، هنا أود أن أسألك عن امكان الحلم في عالم يجهض الحلم؟
ـ نحن نعيش في عالم وفضاء كل ما هو ظاهر فيه ينادي ويستفز القوة الكامنة في الإنسان لنفض الغبار عن أحلامه رغم أن العولمة وبشكل حاد تنمّط أحلام الناس.
فيلم الأمير نادى بالحلم كمكسب إنساني فردي هو الأساس في حياته. الحلم هو أساس الحرية ومن دون حلم لا يمكن أن نكون أحرارا، ولا يمكن أن نفكر.
بطل الأمير لم يعش قصة حب بسيطة وسطحية ولكن السؤال الذي طرحه «عادل» البطل هو الإيمان بحرية الحلم وحرية الخيال. الحلم هو طريق الإبداع ومسلك الحرية، بل هو يتساوق معها، في هذا العالم الذي يسوّق كل المواد الاستهلاكية لنسأل هل الناس بإمكانهم تحقيق الأحلام في عالم معلّب.
حرب الخليج وحرب العراق جعلتنا نقف على الأيادي التي تتقن جيدا إجهاض الحرية وودئها باسم ترويج الحرية ذاتها والديمقراطية...
الحلم... الحرية... الديمقراطية كلها مشاريع مؤسسات القوى المهيمنة.
في الأمير، بطل الفيلم يُربّي حلمه فوق أرصفة شارع الحبيب بورقيبة، بل يقتنصه من الامكانات الملقاة تحت عصافير الشارع المنثورة على كراسي المقاهي وفي رحيق زهور ذات الشارع. الحلم هو الذي نكتبه بقلمنا الخاص، لا أعني قلم الكتابة... أعني مختلف وسائل الحياة... محراث الفلاح... ميزان التاجر... عجينة بائعة الخبز... مجاز الشاعر... خطوة الجندي...
*هناك مقولة ترى أن السينما هي صناعة الحقائق والأكاذيب معا وأنت صوّرت الأمير في شارع الحبيب بورقيبة... شارع الألغام الحقيقية فكيف تفاديت ألغام الواقع تلك التي يصفها المخرج البريطاني مارك كوزينس؟
ـ يقول أوسكار وايلد، الكذب هو أداة إبداع. الكذب هو مجال تخصيب الخيال ولذلك نحب المرأة الكذوب ونستمتع بكذب الطفل الصغير ونصدّق مجاز الشاعر الكاذب...
في الأمير تراءى للجمهور بأن ذاك الشارع المزدحم هو شارع الحبيب بورقيبة. هو فعلا الشارع وهو في نفس الوقت ما هو إلا الشارع الذي رسمته في خيالي... شارع الحبيب بورقيبة هو في خيالي أكذوبة وهو في ذهن المشاهد حقيقة... أكذوبة لصناعة السينما.
الألغام التي تفاديتها ورقصت كاميرا الزرن أمامها تمثلت في عُسر التحكم مثلا في حركة المرور أو في حركة جولان الملامح والعصافير. تخيل أن آلافًا من الناس العابرين في الشارع توقفوا لمشاهدة عمليات التصوير... وعندما تنهي الفلم لا تجد تلك الألغام لقد اجتهدت في صياغة خطواتي أمام ألغامه لأقدم أكثر من مائة دقيقة عن شارع أحبه واعتبره جزءا مني.
*على ذكر الواقع والواقعية، هل تعتبر السينما كتابة تاريخية في احد وجوهها وشاهدة توثق مرحلتها؟
ـ نحن محكوم علينا أن ننتج أفلاما تعبر عن دواخل الناس، أحلامهم وشجونهم، وفي نفس الوقت يجب أن يكون المخرج شاهدا على مرحلته، وبالتالي فالعامل التوثيقي موجود بل هو أساسي لحماية مخزوننا الثقافي والتاريخي، ولذلك ترى في أفلامي عمقا وثائقيا على اختلافهم وهذا ناتج عن إيماني بقيمة القيم الإنسانية، ومن فلم لآخر أمر بفلم وثائقي طويل وهو بمثابة مصالحة مع ذاتي وتعبير عن القيمة التجريدية التي تعتمل بداخلي كمخرج أو بداخل الممثل أو المكان أو الزمان...
*إذن أنت الآن في حالة مرور أو لنقل عبور فبعد الأمير ها انك تنهي تصوير فيلمك الجديد منذ أيام؟
ـ فلم «الفصول الأربعة للطاهر وشمعون» يندرج في مسار مواصلة بحثي عن حقيقة السينما وهي إنسانية الإنسان لأنها الجواز الكوني الذي يربط وجودنا ويؤسس تواصلنا.
في هذا الفلم حاولت أن أرصد بعمق التسامح، المحبة، التطوّر وهذه هي غاية الفلم، من ذلك أني أدمجت في الفلم شخصيات كلهم من اصل مدينة جرجيس، شخصيات مختلفة ومتناقضة، ثانوية ورئيسية، كلها تعبّر عن وجود إنسان اليوم وعن شكل إقامته في العالم، منهم اليهودي والمسلم والمسيحي على تعدّد أديانهم وجنسياتهم وثقافاتهم، فيه العامل والعاطل، فيه العجوز والشاب، الأمي والمثقف...
جرجيس اليوم، هذه المدينة تحضن كل هذه الملامح وكل هذه التناقضات والاختلافات وأيضا كل هذا التلاقي والتواصل... جرجيس قد تكون مدينة في نيويورك أو في الهند... جرجيس صبغتها بمسحة الكونية وهي بالفعل كذلك.
*قبل عشرين سنة كانت في تونس 90 قاعة عرض لم يبق منها الآن إلا 13 قاعة وهي لا تعرض بانتظام، فمن يتحمل مسؤولية هذا التراجع حسب رأيك، الدولة وحدها أم أهل القطاع أم الاثنان ومعهما الجمهور؟
ـ أعتقد أن القاعات التي مازالت كلها، صارت هي الأخرى جثثا مفتوحة على ظلمة الجدران وفراغ الكراسي، وأعتقد أن قاعة «أفريكا آر» وحدها الآن قد تؤسس لجسد سينمائي حيّ يتنفس ويتحرك.
ولايات كاملة لا تتوفر بها إلا قاعة سينما يتيمة وفي الغالب الأعم تجدها مغلقة!!! في جرجيس مثلا قاعة واحدة تم إغلاقها «بالياجور»، في مدنين هناك قاعتان مغلقتان وبالمثل تطاوين وبنقردان لا وجود بتاتا لقاعة سينما، في جربة هناك قاعة خاصة لا يؤمها الجمهور، آخر مرة دخلتها وجدت فيها 5 مشاهدين فقط !!!
هناك عدة عوامل خلقت ثقافة حينية، استهلاكية، نمّت البُخل بشكل فظيع، ثم الانغلاق الفكري الذي صار حاجزا سميكا، والوضع لا ينطبق على السينما وحدها بل على الشعر والمسرح والكتاب والرسم والموسيقى وكل تعبيرات الحلم...
الأولوية الأساسية التي يجب أن تتضافر من اجلها كل الأطراف، مؤسسات الدولة والمثقف والمواطن، هي بث النور في الظلمة، ظلمة قاعات السينما هي من ظلمة العقول... صحيح أننا بحاجة لطرقات سيارة وجسور وقناطر ولكن أيضا نحن بحاجة لإنسان متنوّر يعرف كيف يمشي فوق تلك المنجزات، وهذا لا يخصنا نحن كتونسيين فقط، وإنما يخص كل الدول العربية.
*لك البياض المتبقي لتنهي هذا الحوار كما تشاء؟
ـ تقفز إلى مخيلتي الآن صورة كاريكاتورية تتمثل في أن برميل النفط عندنا نحن العرب فاق المائة دولار، معمار خيالي في العواصم وخيال يرتدُ ويتراجع بشكل جنوني... يا للأسف...

"زيادة الحاكم"

يحتشد ذهننا نحن التونسيّين، عمّالا أو موظفين، طلبة أو تلاميذ، متعلمين أو أميين، مدنيين أو ريفيين، تقدميين أو رجعيين.... تحتشد أذهاننا جميعا بجملة من المعتقدات التي لا تكرّس إلاّ تأخّر إيماننا بفعل المواطنة الحقيقية، ومن بين تلك المعتقدات التي تجري على ألسننا جريان الدّم في الشرايين تلك المركبات اللغوية المعلومة لنا جميعا وكأنها حقائق ثابتة وليست أوهاما مثل قولنا «عشرة الحاكم» و »زيت الحاكم» و »ضو الحاكم» و »طريق الحاكم» وكذلك «زيادة الحاكم» وهي التي تعنيني ضمن هذه الأسطر العابرة...
تعنيني «زيادة الحاكم» لأننا نعيش هذه الأيام جولة جديدة ومهمة من المفاوضات الاجتماعية حيث تجلس يوميّا إلى طاولة التفاوض، الأطراف الثلاثة بنفس النديّة والحجم وهم الاتحاد العام التونسي للشغل ممثل العمّال والعاملات بالفكر والساعد واتحاد الصناعة والتجارة منظمة الاعراف والطرف الثالث الحكومة ممثلة في مختلف وزاراتها ومؤسساتها العمومية، ومعلوم أن المفاوضات الاجتماعية التي تُجرى مرّة كل ثلاث سنوات تنظر في مستوى عيش «المواطن التونسي» وفي سبيل تحقيق الموازنة بين مستوى الدخل ومستوى العيش وغالبا ما تنتهي تلك الجلسات التفاوضية بإقرار زيادة في الاجور لعموم العمّال والعاملات، غير ان كل المنتفعين بملاليم الزيادة تراهم في كل شبر من البلاد يتحدثون عن زيادة الحاكم!!! والحال أن الاتحاد العام التونسي للشغل هو الذي يطالب بضرورة تلك الزيادة ولأجلها يكوّن المفاوضين ويدربهم وتناضل كل طاقاته من اجل تحسين الحد الأدنى المعيشي... والحال أيضا أن الحكومة والاعراف غالبا ما يتعللون بالظرف الاقتصادي العالمي او بطبيعة تغير المناخ والطقس الذي أثرّ في موارد البلاد الطبيعيّة..
تصوّروا طبيبا أو مهندسا أو أستاذا جامعيّا يتحدّث عن زيادة الحاكم وبالمثل تلاميذ معاهدنا وطلاّب جامعاتنا تسمعهم أيام الامتحانات يتحدثون عن تحصيل «عشرة الحاكم» على الاقل.. وكأن الحاكم هو الذي يدرس ويسهر الليالي!! و جدّتي تقول لي إنّها تكرهُ «عظم الحاكم» وأنها تحب «العظم العربي»... وكل المركبات اللغوية الاخرى التي لا تؤكد الا استفحال ذهنية فقدان صيغة المواطنة تلك القيمة المكتسبة عبر جملة من الممارسات وعبر جملة من المبادئ التي يؤمن بها الانسان ولا يمكن للمواطنة أن تُهدى أو تُعطى هكذا مثلما يتوهم التونسيون أن الحاكم يمنحهم الزيادة... ويعبّد لهم الطريق...