بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/08/23

حوار مع امين عام المؤتمر القومي العربي معن بشور

كيف يكون ليبراليا من لا يكون مدافعا عن حرية وطنه وحرية شعبه؟!

قيادي في حزب البعث حتى عام 1975، امين عام المؤتمر القومي العربي، احد مؤسسي المؤتمر القومي/الاسلامي، احد مؤسسي المنظمة العربية لحقوق الانسان، المنسق العام لتجمع اللجان والروابط الشعبية في لبنان، منسق الحملة الاهلية لنصرة فلسطين والعراق في لبنان، المشرف العام على مجلة "المنابر" الثقافية.. كل هذه المهام يرفعها الاستاذ معن بشور على عاتقه، ايمانا منه ان النضال الحقيقي هو التشابك العملي للخطوط الممكنة وللاحتمالات المطروحة امام المناضل الصادق.. يحملها ولا ينوس بها أنّي ولى وجهته في مشرق الوطن العربي او مغربه
...

* بدءا، كيف يمكنكم ان تحملوا للقارئ تجربتكم السياسية اثناء تنظّمكم في حزب البعث؟-
خروجي من حزب البعث كان لاسباب سياسية وتنظيمية. بقيت ملتزما بالفكر لكن أعمل من خارج التنظيم لصالح الفكر، وليس الان مجال لتخصيص اسباب خروجي لأن البعث يواجه الان الامبريالية الامريكية، وقادته اما في الاسر واما في المدافن واما في المنافي، والوقت الان هو وقت التركيز على ما يجمع ولا على ما يفرق، والماضي تجربة نعود اليها كي نستفيد من دروسها وعبرها وليس الماضي سجنا نسجن فيه انفسنا ونبقيها اسيرة خلافات وحساسيات لا يمكن ان تخدم اهدافنا القومية. وأذكر ان الرئيس صدام حسين حين التقيته في اوائل فيفري 2003 أي قبل الحرب بشهر وقال لي بالحرف الواحد "البعث ليس صيغة فنية نحصر نفسنا بها، بل هو افكار يحملها المؤمنون بها ويسعون الى خدمتها بالصيغة التي يرونها مناسبة".

* الا تعتقد ان الواقع والمستجدات الحاصلة في العراق وسوريا ولبنان وبعض بؤر الفكر البعثي اكدت بما لا يدع مجالا للشك ان الوضع المأساوي بهذه المنطقة ناجم اساسا عن ضيق أفق الفكر البعثي؟
- لا اعتقد ان البعث كافكار قد فشل، بل على العكس اعتقد ان الفكرة القومية العربية التي حمل لوائها القوميون الاوائل، ومنهم البعثيون، وربطوها بمحتواها الروحي والثقافي والحضاري المتمثل بالاسلام، واعطوها مضمونا اجتماعيا متمثلا بالاشتراكية وسياسيا متمثلا بالوحدة والاستقلال، وديمقراطيا متمثلا بالحرية. هذه الافكار ما زالت صالحة حتى اليوم، بل هي في قلب روح العصر الذي يؤكد على قيام التكتلات الكبرى ويشدد على الحرية والديمقراطية ويكشف ازمة كل الكيانات الصغيرة وازمة كل الانظمة والمنظومات التي تقفز فوق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
* ولكن الممارسات السلطوية والجو الامني الخانق الذي فرضته الاحزاب البعثية ناقض ما طرحه منظرو البعث ومفكريه؟
- المشكلة التي واجهها البعث تتصل بالممارسة وخصوصا في ظل تناقض موضوعي بين متطلبات البعث كحركة قومية تعمل على امتداد الوطن العربي وبين امكانات السلطة القطرية وظروفها المحدودة والمشكلات الناجمة عن سبل الاحتفاظ بها، لا سيما تلك السبل التي تقوم على تضخم في دور الاجهزة الامنية على حساب المشاركة الديمقراطية الواسعة، الان ان هذه السلبيات التي رافقت الممارسة لا تعني ان التجارب البعثية لم يكن لها ايجابيات بل بالعكس ولا سيما في مجال تحقيق نهضة علمية وتكنولوجية بارزة، كما انها شكلت مواقع للمانعة في مواجهة المشروع الامريكي الصهيوني الرامي الى الهيمنة الكاملة على هذه المنطقة وعلى تقنياتها، وهذا المشروع لاحظناه يتحول الى عدوان واحتلال في العراق ونلاحظه اليوم يتجسد في تهديدات وضغوطات داخل سوريا؟ المطلوب نظرة منصفة الى البعث كما الى كل الحركات الاخرى، نظرة ترى الايجابي والسلبي معا، فلا تخسر موضوعية التقييم ونزاهته وشفافيته.

*هل تسعون للاستفادة من تجربتكم الخاصة ومن التجارب الحزبية العامة في صيغة المؤتمر القومي العربي الذي تتولون امانته العامة اليوم؟
- في البداية يجب ان ننبه الى ان المؤتمر القومي العربي ليس حزبا او تنظيما سياسيا بل هو تجمع لمجموعة من اهل الفكر والنضال في هذه الامة اتت الى المؤتمر من مواقع حزبية وفكرية وسياسية متعددة، ومن منابر ثقافية واعلامية متنوعة تحاول ان تدرس حال الامة كل عام في ضوء عناصر المشروع الحضاري العربي النهضوي لتستخرج من هذه الدراسة توجهات وافكار ومواقف تضعها امام الرأي العام العربي بل امام الامة بكل مواقعها للاستفادة منها، ويسعى اعضاء المؤتمر من خلال مواقعهم السياسية او النيابية او الحزبية او النقابية او الثقافية الى ترجمتها في بلدانهم وفي ساحات عملهم.
فالفكرة المركزية هنا تبدأ من الحوار بين كل المؤمنين بالمشروع النهضوي العربي بمعنى ان فكرة المؤتمر تناقض نهج الاقصاء والابعاد والغاء الاخر الذي حكم الى فترة طويلة العلاقات بين الوان الطيف السياسي العربي، فالمؤتمر اذن ليس بديلا للاحزاب القائمة – التي شارك العديد من اعضائها في الانخراط في صفوف المؤتمر بصفتهم الشخصية جنبا الى جنب مع شخصيات مستقلة للمؤتمر– بقدر ما هو وعاء للتفاعل بين هؤلاء الذين فرقتهم الحسابات والانشقاقات مما أدى الى تشرذم حركات التحرر والوحدة في الامة والى اقصاء متبادل بين تياراتها والى اختزال بين قواها.

* وهل من تفاعل بين المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي / الاسلامي على مستوى الرؤية والبرامج؟
- المؤتمر القومي العربي يسعى مع "شقيقيه" المؤتمر القومي /الاسلامي والمؤتمر العام للاحزاب العربية ان ينقل العلاقة بين تيارات الامة من حال التباعد الى حال التلاقي ومن حال التنافر الى حال الحوار، ومن حال تعثر القوى الى حال تجميع الصفوف لمواجهة التحديات الخارجية والداخلية وصولا الى بناء مرجعية شعبية عربية تشكل بوصلة للموقف السليم الواجب اتخاذه واطارا للتعبئة الواسعة حول هذا الموقف، وهنا يضع كل اعضاء المؤتمر تجاربهم السابقة والحالية، وخبراتهم الجماعية والفردية، والدروس المستفادة من مسيرة النضال العربي في اطار مناقشات المؤتمر لكي يتم استخراج رؤى تتمسك بايجابيات هذه التجارب وتتخلص من سلبياتها، والمحك في هذا كله هو المشروع النهضوي الحضاري العربي الذي يخرج الكثير من ادائنا السياسي من الوقوع اسرى الشعارات ليضعه في اطار برامج عملية ومحددة.

* اذن هل المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي / الاسلامي في الضفة المقابلة لجامعة الدول العربية – باعتبار صبغتها الرسمية- ام انهما يتقاطعان مع رؤاها العامة في ما اسميتموه مشروعا نهضويا حضاريا؟
- الجامعة العربية هي وعاء للنظام الرسمي العربي، فيما المؤتمر القومي العربي هو اطار لطاقات اهلية عربية متنوعة، فاذا كانت الجامعة العربية في الكثير من مواقفها محكومة بسقف مواقف الانظمة العربية وهي مواقف مكبلة بالف حساب، فان المؤتمر القومي العربي هو هيئة متحررة من كل القيود ويسعى الى ان يطلق المواقف المعبرة عن ضمير الامة، ووجدان شعوبها، ونحن نطمح دون شك ان يقوم تكامل بين عمل المؤتمر وعمل الجامعة بحيث يكون لآراء المؤتمر ومواقفه حضورا في مناقشات الجامعة العربية بكل مستوياته وبالتالي نمارس ضغوطات على مواقف الجامعة كي تتوازن او تعطل الضغوط الآتية من قوى خارجية تسعى في النهاية الى انهاء جامعة الدول العربية كمنظومة عربية اقليمية لصالح النظام الشرق اوسطي الذي يفرض الكيان الصهيوني مركزا رئيسيا له.

* اغتيال رفيق الحريري.. تصاعد المقاومة... القرار الدولي 1559... توتر مع الجيران وخاصة سوريا ... كيف لكم ان تقيموا الوضع الراهن بلبنان؟
- مما لا شك فيه ان لبنان يمر بظروف صعبة، ومصدر الصعوبة هذه ناشئ اساسا عن رغبة اصحاب المشروع الغربي الامريكي الصهيوني في نقل لبنان من موقعه الحالي في الصراع العربي الصهيوني الى الموقع المقابل، وفي عزل لبنان عن عمقه العربي وصولا الى الثأر من لبنان بسبب انتصاره غير المسبوق بالمقاومة على الاحتلال الاسرائيلي، ناهيك عن الطموح الصهيوني القديم يتمزيق لبنان وتحويله الى مجموعات طائفية هزيلة. ولقد ظن اصحاب هذا المشروع بعد احتلالهم العراق ان الفرصة سانحة لهم لينقضوا على لبنان فيجردوه من عناصر قوته وهي المقاومة والعروبة والوحدة الوطنية ويستخدموه منصة للضغوط على سوريا بهدف اجبارها على الاذعان لاملاءات باتت معروفة سواء في اقضية الفلسطينية او القضية العراقية او القضية اللبنانية، ولقد كان عنوان هذا المشروع هو القرار الدولي 1559 والذي يعتبر خرقا فاضحا لميثاق الامم المتحدة وللقانون الدولي فلو كان هناك محكمة دولية تنظر في قانونية قرارات مجلس الامن وشرعيتها لحكمت دون شك بابطال القرار.
ثم جاء اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ليشكل الصاعق المفجر للاوضاع اللبنانية وليعطي القرار 1559 زخما كبيرا مستفيدا دون شك من تراكم اخطاء وخطايا وقعت بها الادارة السورية - اللبنانية للشأن اللبناني مما سمح باستغلال هذه الخطايا لايجاد حالة شعبية بدت لوهلة معينة وكأنها مغايرة لكل خيارات لبنان الوطنية ولثوابته الشعبية ... لكل هذا الوضع الطارئ لم يكن ممكنا له ان يستمر طويلا وبدأ لبنان يستعيد تدريجيا توازنه من خلال بروز دور متنام للقوى المتمسكة بعروبة لبنان وبالمقاومة اللبنانية، وبعلاقات سياسية متكافئة مع سوريا، فتغيرت التحالفات وبدأ لاصحاب المشروع الامريكي الصهيوني ان نجاحهم في لبنان ليس سهلا وان الرياح التي ظنوها موأتية لهم بعد احتلال العراق لم تعد كذلك، فالمشروع الامريكي يتعثر في العراق بفضل المقاومة الباسلة، والمشروع الصهيوني يتعثر في فلسطين خصوصا بعد الانتخابات الفلسطينية الاخيرة، والمسرح الدولي لم يعد ملعبا يتحرك فيه لاعب وحيد هو الادارة الامريكية، مما سمح بأن يعود اللبنانيون الى طاولة الحوار وأن يتراجع تدريجيا خطاب التصعيد المحمّل بشحنات طائفية ومذهبية وعنصرية وبات من الصعب على أي طرف لبناني ان يتحمل مسؤولية إفشال حوار اللبنانيين المتعطشين الى السلام والسلم الاهلي والتماسك الوطني والاستقرار الامني.
صحيح ان الحوار الدائر حاليا قد لا يحقق كل النتائج المرجوة منه لكنه دون شك خطوة هامة على طريق تهدئة الاجواء وعقلنة الخطاب السياسي ومد الجسور نحو آفاق جديدة ومبادرات متعددة، بعضها لبناني، وبعضها عربي، وبعضها ربما يكون دوليا، وسيستعيد لبنان في ظل ذلك كله توازنه الذي كاد يفقده بعد الزلزال الضخم المرتبط باغتيال رئيس الوزراء السابق الشهيد رفيق الحريري، بل بدأ اللبنانيون يدركون ان التفافهم حول ثوابت الوحدة الوطنية والديمقراطية والعدالة والعروبة والمقاومة والعلاقة المميزة مع سوريا هو ضمانة بوجه أي اهتزاز قادم داخل بلدهم ومحيطهم.
ان لبنان – وفي جميع الاحوال- يحتاج الى فهم اعمق واحتضان اكبر من اشقائه العرب، وخصوصا سوريا، بحيث تجري دراسة دقيقة لأي موقف او تصرف او مبادرة او خطاب على نحو لا يسمح للمصطادين في الماء العكر ان يستغلوه لخدمة مخططاتهم الخبيثة ولاخراج القوى اللبنانية المدافعة عن الثوابت الوطنية.

* بوصفكم كنتم مشرفا عاما على مجلة "المنابر" ولاهتمامكم المتزايد بالمسائل الثقافية والاحراجات الفكرية، كيف تنظرون لمسألة انخراط المثقف العربي في المشروع السياسي؟
- اعتقد ان العلاقة بين الثقافة والسياسة مسألة بالغة الاهمية، فالسياسة التي لا تحضنها الثقافة مصيرها الضياع او الدوران في حلقة مفرغة او التآكل والذوبان مع الزمن بينما السياسي ذو البعد الثقافي يحصن نفسه في وجه الارتجال والسطحية، والغرق في تفاصيل مملة، وفي فقدان الجاذبية المتجددة امام الرأي العام، والثقافة البعيدة عن السياسة، بالمفهوم الراقي للسياسة تصبح ثقافة خاوية من المضامين الحقيقية لهموم الناس ولمشاغل الحياة بل ان المثقف الذي لا تكون السياسة بوصلته وموجهته يفقد جذوره، ويمر عابرا في حياة شعبه، وكل المثقفين الكبار في حياة الشعوب هم الذين عبّروا، كل بطريقته، عن هموم شعبهم وعن تطلعاته فكانوا بهذا المعنى ساسة بأعلى الدرجات لأنهم وضعوا ابداعهم ومعرفتهم في خدمة الانسان الذي يفترض ان يكون بهمومه وحقوقه وحرياته هدف كل سياسة.
ان المزج المتوازن بين الثقافة والسياسة هو الذي يعطي المثقف السياسي افضلية على كل أقرانه تماما كما ان هذا المزج المتوازن هو الذي يجعل المثقف ذا البعد السياسي متميزا عن اقرانه. فالعلاقة لا تعني ابدا ان تكون الثقافة هي اداة مبتذلة في يد السياسة ولا ان تكون السياسة هي ترداد فجّ لمقولات ثقافية مجردة. فالثقافة لها خصوصياتها ولها لغتها ولها وسائل تعبيرها ولها استقلاليتها بحيث اذا تخلت عن أي واحدة من هذه الامور تحولت الى ثقافة هابطة او الى لا ثقافة، وبالمقابل فان للسياسة تكتيكاتها واساليب عملها وملامستها العميقة للواقع فهي اذا خسرت هذه الميزات تصبح انتهازية فاضحة او مثالية خائنة.

* نلاحظ ان المخططات الامريكية والصهيونية باتت تمرر الى العقل العربي عبر العقل ذاته... عبر من يدعون انهم مثقفون ليبراليون... فهل فعلا نحن بحاجة اليوم الى مثقفين ليبراليين ام نحن بحاجة ملحة الى مثقف عضوي منغرس في اعماق واقعه؟
- اعتقد ان كل مثقف ينبغي ان يكون ليبراليا بدرجة او بأخرى خصوصا اذا كان المقصود بالليبرالية هو احترام الحرية واحترام الاخر وافساح المجال لكل الاراء ان تتفاعل وتتحاور في جو من الحرية الذي لا تنغصها أي قيود، ولكن الليبرالية باتت اليوم مدارس وصل بعضها الى حد اعتبار الاستنجاد بالاجنبي في مواجهة انظمة الاستبداد هو موقف ليبرالي فيما تكشف الاحداث مثلا ان هذا المنطق قد سقط مع التجربة العراقية ذاتها فعيب الليبرالي، في هذه الحالة، هنا ليس فقط في تنكره لوطنه ولأمته فحسب بل يكمن عيبه في انه كان ممرا عبرت فوقه دبابات الاحتلال لتقيم ابشع انواع الاستبداد واقصى انواع المجازر واشنع معسكرات التعذيب.
فهذه الليبرالية المراهنة على الاساطيل الخارجية والاباطيل الاستعمارية قد سقطت بمقياس الليبرالية نفسها حتى لا نقول انها سقطت بالمنطق القومي او الوطني او الانساني، ولعله من المفارقات المذهلة ان الكثير من الليبراليين الذين كانوا يملؤون وسائل الاعلام ضجيجا ضد النظام العراقي السابق للاحتلال بحجة استبداديته وديكتاتوريته نجدهم صامتين صمت القبور امام ما يرتكبه المحتل الامريكي وادواته وأعوانه من جرائم في حق الشعب العراقي.
ان هذا الصنف من المثقفين الليبراليين يقع هو الاخر في لعبة ازدواجية المعايير فيفقد مصداقيته ويتضح ان علاقته بالليبرالية لا تختلف عن علاقة الكثير من رافعي الشعارات البراقة، اما المثقف الملتزم بقضايا امته ومجتمعه فهو الليبرالي الحقيقي لانه يدرك ان استقلال الاوطان وحريتها هو المدخل الحقيقي للديمقراطية وحقوق الانسان فتعبير الليبرالية مشتق اساسا من كلمة ( Liberte') أي الحرية فكيف يكون ليبراليا من لا يكون مدافعا عن حرية وطنه وحرية شعبه؟!

أجيال وراء أجيال

لو كنت فرنسيا لمت في فرنسا... ولو كنت كنديا لمت في كندا... ولو كنت يابانيا لمت في اليابان... ولو كنت كوبيا لمت في كوبا... ولكن انا تونسي ومع ذلك لا أحب ولا أتمنى ان أموت في تونس!!!
«أنا» لا تعود عليّ أنا، وإنما هي ضمير ـ ليس حيا ـ يعود لعدد غير قليل من ابناء جلدتنا ولدوا وكبروا هنا وهم الان يكبرون وسيهرمون هناك... ولأكن واضحا فأنا أقصد عيّنة بذاتها من شباب تونس وشاباتها، هم تحديدا ابناء وبنات عدد كبير من «المناضلين» السياسيين والحقوقيين والنقابيين ـ أعرف أغلبهم ـ قاموا «بتهريب» ابنائهم وبناتهم الى الجامعات الغربية والامريكية ليواصلوا تعلمهم ويحصّلوا من الشهادات ما تيسّر لهم، ولهم في ذلك كل الحق، ولكن ما يحزّ في النفس ان العديد من أولئك «المناضلين» الذين صرفوا اعمارهم في السجون والسرية وفي الاعتصامات والمظاهرات من اجل تونس الحلم لأبنائهم وبناتهم وللجيل الذي سيبقى بعدهم، ترى أغلبهم يشجع ابنه أو ابنته على البقاء هناك وعدم التفكير في العودة الى تونس... تراهم يفاخرون ببقاء ابنائهم في باريس ونيويورك ومونتريال والمانيا وغيرها من العواصم ولا تسمعهم يتحدثون الا عن رفاهيتهم هناك وعن حريتهم هناك حتى أقنعوا أنفسهم بأن هذه البلاد ما عادت تصلح لهم وان مناخها أضيق من نشاطاتهم وطموحاتهم فلماذا يعودون؟ ولماذا يؤوبون؟!!
هنا أود أن أسألكم أنتم بالذات، لماذا ناضلتم ولا تزالون؟! لماذا صرفتم أعماركم في النقد والاصلاح وحتى في الحلم بالثورة؟! أليس من اجل ابناكم وبناتكم ومن اجل جيل كامل؟!! هل أفنيتم سنون حياتكم من اجل جيل منذور للهباء والشتات؟!! يا لنفاقكم وخيبتكم ايها المناضلون الثوريون؟!
وحدهم ممن تطلقون عليهم صفة «الشعبيون» يكدون هناك لأجل العودة هنا وبناء مشروع لصالح البلاد... وحدهم صادقون في حب هذه الارض... بل اني اعرف الكثير من الشباب الضائع هنا من «حرق» الى «طاليا» ليعود الى تونس ويبني مشروعا ينقذه من الضياع الذي كان فيه...
وحتى لا أتجنى على احد فاني بالمقابل اعرف عدد قليل جدا جدا من شبان وشابات تغربوا عن تونس وأصروا على العودة اليها بزادهم العلمي والمعرفي الذي حصلوها هناك ولكنهم ـ مع الاسف الشديد ـ يعدون على اصابع اليد...
لن أصف الجيل الذي تربيت على نضاليته بأنه امتهن النضال النخبوي والبورجوازي والفئوي... لن اصفه بذلك لأني بالاخير اظل احترمهم واحترم نفسي باعتباري ثمرة من ثماره... ولكن لست ادري كيف اصف وبماذا اصف صنفا اخطر من الاول من اولئك المناضلون السياسيون والنقابيون والحقوقيون (اقصد كل الحساسيات والاحزاب، حاكمة وتابعة ومعارضة) واقصد بالصنف الثاني عددا كبيرا من «المناضلين» الذين أفنوا اعمارهم في الانصهار في العائلات الحزبية او الحقوقية أو النقابية او المدنية ومع ذلك لم ينجحوا في تكوين عائلاتهم «الدموية» على المبادئ والقيم والشعارات التي رفعوها وآمنوا بها خارج عتبة بيوتهم ومنازلهم اذ نادرا ما تلتقي ابن او ابنة «مناضل» مهتم بالشأن السياسي او النقابي او الحقوقي... فالكل منصرف الى شأنه الخاص... وأي شأن... كرة، مقاهٍ... فضائيات!!!