بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/08/26

يا ذراعي كلمني

تعيش العاصمة ، وكذلك أغلب ولايات الجمهورية، حركة بناء وتعمير عمراني ومؤسساتي بالأساس، إذ تنتشر حضائر البناء في كل المناطق : بنوك وشركات، مدارس ومعاهد، مستشفيات ومصحات، وتعترضك الرافعات هنا وآلات الخلط هناك وفي بعض الأماكن تسمع صياح بعض العمال وهم ينادون بعضهم بعضا، حاثين المتواكلين منهم على التفاني في البناء والتشييد والتعمير...
والنسبة الكبيرة من أيادي البناء والتشييد هي سواعدُ الشباب، الطلبة والتلاميذ وخاصة خريجي الجامعات أصحاب الشهائد العليا الذين لم يحالفهم الحظ في الالتحاق بوظائفهم التي لأجلها تعلموا ودرسوا وسهروا الليالي الطوال...
هذه الفئة الكادحة في حضائر البناء بعد أن كانت تمني النفس بجني ثمار تعبها وتعب عائلاتها ، يتضاءلون كحب الزيتون أمام ارتفاع تلك المؤسسات والشركات، إذ بمجرّد أن تكتمل بناية ما وتجهز بأحدث التقنيات وبالمكيفات والكراسي الدوارة تنسحب منها الكفاءات العلمية بحثا عن حضيرة أخرى تؤمن لهم أياما معدودات لا يعلم قساوتها إلا من يعيشها، وبالمقابل تفتح أبواب نفس المؤسسات لفئة أخرى من الشباب لكنها تمتلك العصا السحرية في ايجاد حلول للأزمات العابرة، إذ يُنتدب لمكاتب تلك البنايات ابن عم المقاول وابن خالة المدير وابنة جار رئيس المصلحة وكل أبناء وبنات صلة الرحم الوظيفي وغيرهم يظل كالجراد يهيم من عطالة الى أخرى ومن نكد الى نكد...
قد تكون هذه تأويلات مغرضة لا صحّة لها، وقد يكون قلمي مهوسا بتحبير السواد وترصيف الأفكار البائسة والمحطمة للآمال... وقد ... وقد ... ولكن يبقى ما كتبته شيئا من الواقع الذي نعيش فيه يوميا ونعرف تفاصيله ودقائقه، فما من عائلة تونسية إلا وتحوّل ابن لها أو ابنان من مدارج العلم والمعرفة الى حضائر البناء والتشييد ... وما من حضيرة بناء تقاطرت على حجارتها واسمنتها حبات عرق شاب يحمل شهادة جامعية إلا ولفظته بعد ان ارتفعت وعلت ، مثلما تُلفظ النواة ... وفي أفضل الأحوال يتم انتدابه عبر شركة مناولة ليحرس البناية ليلا ونهارا بأجر زهيد...
ربما أغنية التونسي الأزهر الضاوي هي الأكثر تعبيرا عن هذا الوضع الذي يعيش فيه مئات المتخرجين في الحضائر ومشاريع البناء ... تقول كلمات أغنية الأزهر الضاوي «يا ذراعي كلمني، جاوبني واعطني التفسير، ها الحيط اللي بنيتو كي تعلّى خلاني قصير ... نبني قصور السادة ونسكن في حكك القصدير ... يا ذراعي ... يا ذراعي...»