بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/08/30

النعش الأخضر

«أيها الموت انتظر ! حتى أعدَّ / حقيبتي: فرشاة أسناني، وصابوني، وماكنة الحلاقة، والكولونيا، والثياب / ويا موتُ انتظر، يا موت، / حتى أستعيد صفاء ذهني في الربيع...»
مات محمود درويش الفلسطيني المعتقل بالذكريات داخل / خارج الوطن المتكرّر في المذابح والأغاني... الفلسطيني الذي فكّ طلاسم هويته الموزعة من مطار الى مطار ومن فندق الى فندق...


مات محمود درويش وهو متهم بالتجريد وتزوير الوثائق والصور الشمسيّة وهو يصرّ على رسم شكل فلسطين المبعثرة بين الملفات والمفاجآت... فلسطين المتطايرة على شظايا القذائف وأجنحة العصافير... المحاصرة بين الريح والخنجر...
اسم محمود درويش السري هو محمود درويش أما اسمه الأصلي فقد انتزعته سياط الشرطة وصنوبر الكرمل عن لحمه وتركت له هوية تتكئ على الريح... وقامة صقلتها المسافات وتذاكر السفر... وممرات تحتشد بالفراغ...
مات محمود درويش وهو يُحاول ان يذكر اسمه الاصلي بلا أخطاء ويفك الحروف والحركات عن اللحم الحيّ... ويكفّ عن الكلام لكي يصف نفسه.... مات ابن حوريّة وهو يحاول ان يستجدي فلسطين كي تعلن براءته منها ليكف عن الموت أو تعلن انتهاء عقْد الشغف بينهما ليصير قادرا على الرحيل...
طالت حالة احتضار محمود درويش وهو يتحفّز للموت على حافة الحلم كما يتحفّز الشهيد للموت مرّة أخرى تاركا لحمه مشاعا للجنود مثل سطوح المنازل وهاهو يموت وهو بعدُ صامدٌ في الهزيمة وعدوّه صامدٌ في نصره...
يغادر درويش وجهه نحو قلبنا ليعلن قصته والحرائق تنمو على زنبقة، يغادر ليعلن صورته والصنوبر ينمو على مشنقة... يعلنها بعد ان سرق من جرح الشهيد القطن ليلمع اوسمة الصبر والانتظار لينهمر منه الحبر خلف جداول الدم...
يغادر درويش بعد ان تعلم اللغات الشائعة... متاعب السفر الطويل... النوم في القطارات البطيئة والسريعة... والحب في الميناء والغزل المعدّ لكل النساء والشوق المعلب... غادرنا بعد أن علّمنا تربية الأمل ومراسم الوداع... وهو يسبق كل المتعاطفين الذين يعدّون له قبرا مريحا... يسبقهم ويزغرد في عطفهم الكلامي الغوغائي الخطابي... المنافق بدءا ومنتهى... يزغرد ويسألهم من مات؟... لمن تحفرون هذا القبر؟ وهذه الشاهدة على من تدلّ؟ ولمن ترفعون هذا النعش؟؟؟
بين كرنفال الشعر وشهوة النثر أبصر محمود درويش في الكمنجة هجرة الاشواق من بلد ترابي الى بلد سماويّ وأجلس الموت على بلور أيامه كأنه واحدٌ من أصدقائه الدّائمين انتظره ـ كما طلب منه ـ عند باب البحر في مقهى الرومانسيين وانتظرهُ كي يودّع داخله في خارجه ويوزّع القمح الذي امتلأت به روحه والأرض التي امتصته ملحا... انتظره الموت شعرا ونثرا ولما تذكّره وهلّ عليه في مرضه أخذه بابتسامة عريضة وزف في أذنية جملته الشعرية:
«هزمتك يا موتُ الفنون جميعها».