بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/09/03

قهيوة تونسية مرة


مثل خرائط الوطن موزعة بين دفات الكتب والمجلدات، او المهربة داخل الحقائب الدبلوماسية بأقفالها تتوزع جغرافيا كراسي اللغو وطاولات النميمة وفناجين الاسرار السوداء، السوداء... هكذا تتوزع خرائط المقاهي المبثوثة وسط شوارعنا الفسيحة وأزقتنا الضيقة، تماما كالفواصل والنقاط في لغتنا العربية... وكيفما تُوَزعنا ـ نحن ـ الشهوات الصباحية او المسائية، ومواعيد العشق والكتابة والانتظار المقيت، فإننا نظل ابدا أسيري حكم النادل او النادلة، فوفقا لحكمة مقاهينا ووفقا لحكمة ندالها ونادلاتها، غير مسموح لنا اطلاقا بتغميس الافكار وسط برك القهوة التي تسبح في شراييننا صباح مساء، وغير مسموح لنا بتوزيع انكساراتنا واحباطاتنا ولا حتى احلامنا وابتساماتنا القليلة الا همسا خافتا من الفم الى الاذن (de bouche à oreille)، فأنت محروم من استضافة كتاب الى طاولتك وفنجانك، وآثرت الصمت رفيقا والفكرة أنيسا وزوجا خفيفا لصباحك او مسائك... محروم لان امتياز الجلوس في مقاهينا محكوم بقانون واحد، قانون الدفع والدفع والدفع.... محكوم بالقانون الذي يجيز لك فقط ان تلقي الف فنجان قهوة سوداء في جوفك في اقل من دقيقة، وتلقي، طبعا، كل ما تملك في جيبك من قطع نقدية او أوراق مالية وحتى صكوك بنكية في جيب النادل، ذاك الجسر الآدمي الممتد بينك وبين صاحب المقهى الذي لا تعرفه ولن تعرفه ابدا ما لم تعرف مصطلحات من قبيل نمط الانتاج ووسائله وفوائضه والطبقات والتوزيع العادل للثروات وثورة البروليتاريا وجشع البرجوازية و...
في المقهى التونسي اذن، لا يمكنك ان تقرأ كتابا ولا يمكنك ان تمارس محنة الكتابة ولا حتى ان تسر لحبيبتك او صديقك ببنت كلمة او ولدها لانك ستغلق باب الرزق المفتوح على صاحب المقهى من جيبك وجيبي وجيب من لا سترة له ولا سروال أولا، وثانيا لانك ستجعل من مقهاه، منعوتة بالاصبع والعين من اعين المخبرين الرسميين وغير الرسميين وستجعل منها بؤرة لتقاطع السياسيين بالمثقفين والبوهيميين، والذين دائما وابدا، وفي عرف المخبرين واصحاب بطاقات الهوية الوطنية، يعدون مخربين وعملاء وخونة ويستقوون بالاجنبي على حرمة الارض والعرض، ويتوجس منهم صاحب المقهى ونادله / مخبرهن الامين من ان مواعيدهم دائما ما تخفي مظاهرة ما او تحركا او احتجاجا...
او... او... او... عليك ان تدفع او تغادر المقهى!!!!!
سمات فريدة من نوعها تنفرد بها مقاهينا التونسية دون غيرها... سمات تنتشر بين الجدران الملساء مع سحب لفافات التبغ الردئية منها والمستوردة ومع نعيق النرجيلات وطقطقة الكعاب الحادة... اهم تلك السمات وجود قائمتين من الزبائن، اولى تضم الزبائن المحبذين والثانية الزبائن غير المرغوب فيهم، فأما القائمة الاولى فهي بلا شك تلك التي فيها أزواج الحمام، اي العشاق والمحبين، فهؤلاء الذين يلوذون بالمقاهي ليطلقوا أجنحة الحلم والحب على عتبات العمر، يصيرون ـ مثلهم مثل السياح وغرباء المدينة ـ الوليمة الدسمة للنادل بما انه يجبر الحبيب امام خجل حبيبته على اقتناء العصائر والمرطبات وقوارير الماء المعدني الى جانب قهوته السوداء، وطبعا على الحبيب ايضا ان يشقشق «البقشيش» ليزهو بحمى الحب والتبجيل من طرف حبيبته... والى جانب المحبين طبعا الجيش العرمرم من شبابنا المولع بالرياضة وبآخر تقليعات الموضة والحلاقة... فهؤلاء تحديدا لهم كل التبجيل والاحترام ولهم افضل الخدمات، ماداموا يهرون كالكلاب المسعورة ويدفعون للنادل...
اما الصنف الثاني المتكاثر في قائمة المنبوين وغير المرغوب في جلوسهم ولا حتى المرور بالمقهى فهم عادة طلبة الجامعات والكليات، والمعطلين عن العمل من خريجي نفس الجامعات والكليات، وطبعا من اصابتهم لوثة الكتابة والقراءة، فهؤلاء مرصودون دائما وابدا، صباح مساء من طرف النادل والنادلة، وهم منذورون دائما وابدا لأعين المخبرين الرسميين وغير الرسميين، ماذا يطالعون؟ ماذا يخطون فوق حواشي علب السجائر وعلى قفا تذاكر الحافلات؟ فيم يتناقشون وفي من ينتقدون؟؟؟...
... وقلمي يلهث لهثته الاخيرة فوق هذا البياض المخملي لا ادري من اين تباغتني تلك الحكاية التي رواها لي دكتور تونسي ألقى دروسا في علم الانثروبولوجيا بجامعات الولايات المتحدة الامريكية ومر دارسا بجامعة السربون بباريس وتسكع في شوارعها وارتاد مقاهيها، أسر لي انه ذات مرة كان جالسا بإحدى مقاهي باريس فتأخر النادل عن القدوم اليه ثانية بعد ان رحب به مذ دخل المقهى وقدم له ما طلبه، ليتركه لساعات طوال منشغلا بما بين يديه من اوراق، فما كان من محدثي الا ان نادى النادل وسأله لم لم يعاود المجيء رغم انه قضى اكثر من خمس ساعات بقهوة يتيمة. فأجابه النادل بكل أدب وثقة انه لم يفعل ذلك خشية ان يقطع عليه حبل أفكاره...