بحث هذه المدونة الإلكترونية

2008/09/09

النصف الاسفل


من البديهي أن البعد البيولوجي يمثل أساس استمرار وجود الكائنات فوق الارض باعتباره يضمن الحد الادنى لطبيعة الكائن وهي الحركة ولئن كان هذا البعد أساسيا وضروريا فهو ليس المحدد النهائي لاكتمال الكينونة الانسانية في تشابكها مع الذات اولا ومع الاخر ثانيا، إنما ترفده عدة ابعاد اخرى لعل اهمها وأقربها البعد الثقافي.
هذان البعدان ـ البيولوجي والثقافي ـ يستمد ان نسغ استمراريتهما وفاعليتهما من ايجاد وخلق توازن حقيقي وفعلي بين عمليتي الانتاج والاستهلاك ولعل ما يعنينا هنا بدرجة أولى هو الاستهلاك باعتباره فعلا اساسيا، وما يعنينا تحديدا استهلاك المواطن التونسي البيولوجي والثقافي للمنتوج المعروض امامه والمتوفر تحديدا في شهر رمضان.
ولن نختلف ان قلنا ان التونسي في شهر رمضان يتحول الى مستهلك نهم بشكل فوضوي وتتجلّى ملامحه في البوادر التي تطفو منذ انطلاقة اليوم الاول لهذا الشهر العابر وكذلك من خلال التّبعات التي يتكبّدها المستهلك في الاسبوع الذي يلي عيد الفطر...
إن حالة الهيجان الاستهلاكي التي تعتري المواطن التونسي لا تختلف كثيرا عن هيجان التسوناميات التي تعصف برتابة المشهد الطبيعي هنا وهناك اذ تعم الفوضى نظام استهلاكه ونمط عيشه ويدخل في متاهات لا حصر لها تبدأ من التبضّع السلعي وتصل الى التهام شاشة التلفزيون.
وحتى استعماله لوسائل النقل العمومي والخاص تأخذ منعرجا اخر يتّسم بالفوضوية وعدم الانضباط لا الاخلاقي ولا المدني وفي الحقيقة فان مثل هذه السلوكيات التي يأتيها عامة المواطنين كلما حل شهر رمضان لا تنم في الحقيقة الا عن ذهنية سلبية صارت تميّزه وهي ذهنية التفكير في النصف الاسفل وبالنصف الاسفل، وتتأكد هذه الذهنية السلبية من خلال عدة مؤشرات وتعبيرات يومية وسلوكات يأتيها الناس أنّى اعترضتهم فالاسواق تصير اكثر ازدحاما قبل موعد الافطار والاسعار تشتعل وتيرتها مع اقتراب صوت المؤذن والتحيل تتنوع فنونه حسب الملامح...
وبعد ابتهالات صندوق العجب المسمّى تونس7 تهجم برامج الالعاب والساعات المملة من الاشهارات البائسة للمأكولات والحلويات وما لفّ لفهما ليتواصل مراطون الاستهلاك السفلي في اضطرابه بين المسلسلات الدرامية والمسابقات التافهة والمتفهّة للعقل من جهة والسهرات الفنية والموسيقية في الفضاءات العمومية والسهرات العائلية التي لا تستقيم إلا بالاكل والاستهلاك الفوضوي..
هذا يدخل التونسي، او يُدخل مرغما ومكرها، الى مدارات مرعبة من الاستهلاك والتبذير حدّ التخمة ولا يستفيق الا بعد ايام معدودة من انقضاء شهر رمضان حيث يكتشف حجم الخراب الذي يلحق بميزانيته المالية وتكتشف أغلب العائلات تورّطها الغبي في ديون خيالية تتوزع بين المحلات التجارية والاسواق المركزية ومخابز الحلويات والمرطبات وايضا متورّطة في ديون معنوية لفائدة التلفزة التونسية التي تشرّد ذهنه في مساحات شاسعة من الغباء والاستبلاه وتعميه عن حقيقة ما يدور حوله وماسيلحق به في القريب العاجل...
اما اقتران العودة المدرسية بشهر رمضان فتلك مسألة اكبر من الحبر والورق ولو نطقت جيوب هذا الشعب لانفجر الكون بالآهات.