بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/02/09

دار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة: الاسم العالي و....

منذ عشرة سنوات خلت، زارت جارتنا العجوز تونس العاصمة آخر مرة قبل أن تلفظ أنفاسها في الأيام الماضية. في الواقع كانت موتتها غريبة وغير منتظرة بالمرة. صحيح أنها شارفت على سن الثمانين ولكنها لا تزال تتمتع بصحة جيدة تكفيها لمتابعة المسلسلات التلفزيونية وتهجي بعض المقالات السيارة، ولذلك كانت موتتها مفاجئة وغريبة، ولكن الأغرب في موتتها أنني أنا هو قاتلها.

أنا قاتل جارتنا العجوز. أي نعم، أنا من قتلها بعد أن توقف قلبها عن النبض لما سمعت إجابتي عن سؤاليها اللذين طرحتهما علي.

إجابتي كانت عن حسن نيتي وسلامة طويتي، انسابت على لساني من دون تزييف، ولم اضمر بداخلي أي نية لقتل جارتنا العجوز، مثلما أنا الآن لا اضمر أية نية لقتل أي قارئ سيسوقه حظه العاثر ليطلع على مقالتي هذه والتي سأحملها الآن نفس الإجابة التي قتلت جارتنا منذ أيام معدودات.

سألتني جارتنا قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة _ وقلبها ينط بين ضلوعها مثلما تنط عنزة جبلية وسط مرج ربيعي – أمازال الناس في «باب عليوة» يهيمون كالجراد الأرعن ويدبون كالنمل الأسود في غير اتجاه ؟. فأجبتها أن نعم. هم على وضعهم ذاك باقون، بل إنهم صاروا عجينة غريبة من الجراد والنمل ينتشرون في «باب عليوة» وفي كل أبواب العاصمة، ونوافذها.

زمت شفتيها علامة استغراب واستنكار، ثم صفعتني بسؤالها الثاني الذي كان سببا في التعجيل بموتها.

قالت لي وهي تسحب ضفيرة شعرها الشمعية إلى الخلف: قل لي بني، هناك دار للثقافة يقال لها «دار الثقافة ابن رشيق» كائنة في قلب شارع باريس الممتد شريانا متقاطعا مع شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة، قريبة جدا لمقر اتحاد الكتاب التونسيين ، وجدرانها لصيقة بالمعهد الوطني للموسيقى، ويمر أمام بابها المغلق كل يوم الآلاف من المثقفين والمتعلمين والمبدعين والفنانين والشباب... كانت فسحة للمثقفين والمبدعين ومنبتا ثريا لأجيال عديدة مرت بها، اذكر أني آخر مرة مررت بها، منذ سنوات غير قليلة، قرأت لافتة معلقة على جدارها الأمامي كتب عليها أن الدار مغلقة للأشغال. هل انتهت تلك الأشغال وعادت الدار لسالف نشاطها الثقافي أم مازالت على حالها؟.

لم أكن أتصور أن صدقي في الإجابة عن سؤالها سيأخذ جارتنا المسكينة إلى قبرها البارد هناك في مقبرتنا المنسية بين الذئاب والكلاب.

أجبتها بكل صدق ومن دون مبالغة، أن دار الثقافة ابن رشيق مغلقة منذ أن دخلت أنا العاصمة والى الآن، قرأت بالجامعة، تخرجت من الجامعة، أنتدبت للعمل ولا أزال فيه إلى الآن، وهي على حالها لا باب مفتوح ولا أمل قائم في بنيانها المرصوص...ارتفعت حولها مبان بلورية شاهقة، وامتدت حولها طرقات سريعة في كل الاتجاهات، وتوسعت ملاعب كرة القدم بمليارات الدينارات في أشهر معدودة... أفتتحت مركبات وبنايات وارتفعت جسور وطرقات وبنيت جامعات وكليات ومطارات ومحطات وجلبت وزارة الثقافة بالمليارات من المليمات أحمرة تنهق فوق ركح قرطاج وكلاب مسعورة تدور على ذيلها فوق ركح المسرح البلدي...

أقيمت الندوات «الثقافية» وصرف عليها ملايين الملاليم، وودعنا المنتخب «الوطني» لكرة القدم بملايين الدينارات وسنستقبل عما أيام أشباه الأسماء في مهرجاناتنا بملايين أخرى... وفتحت دار الثقافة ابن رشيق بالعاصمة وكأنها لم تفتح فلا برامجها تطورت ولا فعلها تقدم على مثيلاتها في اصقاع البلاد من دور لا تفعل سوى تكرير الثقافة المكرسة!!!

عندما كنت أسرد على مسامع جارتنا العجوز، ما قرأتموه الآن، كانت باهتة صامتة، لم تنبس ببنت شفة، وعندما أنهيت كلامي لفظت جملة واحدة ومعها روحها الباقية. قالت لي: المسألة ليست مسألة ملايين ولا مليارات، المسألة مسألة رغبة وحسابات أخرى، تعلمها وأعلمها أنا ويعلمها جميع من يعرف تاريخ دار الثقافة ابن رشيق.