بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/05/08

"خطوة القط الأسود" لناجي الخشناوي

خطوة السرد الأولى.. باتجاه أدب خالص

كمال الهلالي (جريدة الصحافة)


عن دار ورقة للنشر، صدر أخيرا الكتاب الأول لناجي الخشناوي على امتداد 104 من الصفحات، ويضمّ الكتاب خمس عشرة قصة قصيرة.

ناجي الخشناوي، من مواليد سبيبة بالوسط التونسي سنة 1975 ومتحصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها، وينتمي إلى الجيل الجديد الذي قدم الى الأدب، من باب الشغف ومن باب البحث عن حاضن نبيل لهواجسهم ومشاغلهم، وهو جيل يعول عليه، ببساطة لأنه يكتب بشكل جيد.

القصة الأولى من الكتاب «لا الوقت لنا.. ولا الكتابة أيضا».. وهي في الأصل عمود صحفي، تصلح بمثابة بيان، بقدر ما يعترف باستعصاء الكتابة بفعل التفاصيل اليومية ومناخات العصر، بقدر ما يخلص إلى انه ليس هناك خيار ومنفذ سواها، فهي «العتبة الحبرية» التي تخلص الكاتب من هلاميته باعتباره واحدا من السواد الأعظم، لتجعل منه فردا له اسم واضح، وليكن مثلا ناجي الخشناوي وله نفس واضح وجديد، تماما...

يقظة الحواس

في قصة «تراتيل بحرية»، تتحول ليلة حب مفاجئة رتبتها «مفارقات عجيبة، مخاتلة ومباغتة، لا تترك لك فرصة لاستيعاب ما سيحل بك ولو بعد دقيقة واحدة من الزمن اللاممسك، الى خرافة، «أصلها هاتف شوق»، لا تحتفي الا بالحواس، التي تتيقظ كلها، في جمر الشهوة:

رجل وامرأة يلتقيان في بهو نزل فاخر: «لم يضمر اي شيء في ذهنه. ولا هي، كان هو مشتتا بين الزجاجات التي تركها فوق المنضدة ببهو النزل حذو مضيفه، وبين الرجل الذي يقاسمه غرفته رقم 1710 ، وبين الفسحة البحرية التي تواعد عليها معها قبل ساعة اما هي فكانت سعيدة، لتخلصها من دعوة صديق لها لشرب قهوة خارج النزل بضاحية سيدي بوسعيد، متعللة بالارهاق والتعب.

كانا هكذا، هو مشتت وهي سعيدة، الى ان ألفيا نفسيهما داخل غرفة مرتبة بعناية فائقة، غرفة بابها مغلق على النزلاء، ونافذتها مفتوحة على الأفق البحري الممتد الى آخر البصر..».
الفراغ من الحبّ يقول الى المزيد من يقظة الحواس، لا من نعاسها وبشكل عفوي يتبدى ان الرجل والمرأة قطعتين حيتين من الوجود: «ظلّا ساكنين ينظران الى البحر طويلا.. طويلا حتى تبدت لهما خيوط الشمس مارقة عن الأفق البعيد خيطا خيطا، وتشرع في امتصاص ضوء القمر الفضي ومحو ظلمة السماء المرقطة بحفنة نجوم لا تزال منثورة هنا وهناك وكأنّها تزاحم في كبرياء موهوم اشعة الشمس".

درجات التعبير عن الواقع

كيف يتعاطى الأدب مع الواقع؟ وكيف سيتعاطى كاتب شاب من الشمال الافريقي يكتب في العام 2009 مع ما يدور من حوله؟ كيف يحفظ حرارة الواقع، سيلانه، كثافته، ونتوءاته دون ان يفقد الأدب، كتعبيرة ممكنة عن هذا الواقع، مذاقه المميز ونكهته الغامضة واللذيذة؟
هي أسئلة، من صميم اشكاليات الكتابة وفي فخاخها انزلقت الكثير من النصوص التي توهمت انها تعبر عن «مشاغل العصر وصوت الجماهير»، ناجي الخشناوي فلت من هذه المزالق، بخطوة رشيقة، لعلها خطوة القط الاسود، وحمل في يد واحدة بطختين: «الادب والواقع» معا، دون ان يتسرب اليه شيء من تشاؤل المعلم ايميل حبيبي.

في قصة «درجة اولى»، بائع الفل والياسمين يجمع ويرتب «زهرات الفل والياسمين ويلفها بالخيط الابيض الرفيع، بحركات بهلوانية سريعة ودقيقة. في عربة درجة اولى، يشغلها ثلاثة ركاب اخرين: «سائحة متوسطة العمر مشغولة بتفاصيل الطريق وازرار الة التصوير الرقمية تداعبها تارة امام صواري المراكب المتناثرة فوق ماء البحر، وطورا نحو قرص الشمس الذاهبة في حمرتها إلى أسفل زرقة الماء، وشاب يلاحق ايقاع الموسيقى المنبعثة من سلكي آلة التسجيل المثبتين في أذنيه، وامرأة تطالع مجلة باللغة الفرنسية»...
«
انزلق باب العربة على المقاعد، كانت من الجلد الخالص، وسليمة من آثار التخريب او التمزيق، وفي طرف كل مقعد ثبتت مطفأة سجائر، اذن التدخين مسموح به في هذه العربة».
يطمئن بائع الفل والياسمين الى عدم وجود محظورات وحين ينهمك في نظم باقاته يفاجأ بمراقب التذاكر الذي يطلب منه الاستظهار بتذكرته، وعلى هذا النحو يتفطن البائع الى أنه ارتكب محظورا هو الركوب في عربة الدرجة الاولى في حين ان تذكرته تجيز له فقط الركوب في عربة الدرجة الثانية.

القصة تفلت بامتياز من فخاخ القراءة الطبقية لهذه الواقعة البسيطة وترقى بها الى مستوى اعلى قليلا، هو مستوى الفن، اذ قد نتوهم مثلا ان ليس هناك خطر ما يتهددنا ونحتاط للامر، كأن لا ندخن الا في مكان نتوهم انه يجيز لنا هذا الفعل.. ولكننا نقع في خطر اخر غفلنا عنه، ويتعلق الأمر هنا بأخطار الحياة الصغيرة، التي تحدث كل يوم للسواد الأعظم، الغائبة أطيافهم في "الضجيج المتعالي".

خطوة السرد الاولى

المجموعة الأولى لناجي الخشناوي«خطوة القط الأسود»، بها نفس جديد ومخلص... وعلينا أن ننتظر هذا الكاتب في كتابه الثاني أو الثالث. فهذه ليست سوى خطوة السرد الأولى .. لكاتب من جيل جديد جعل من الأدب ملاذا وحاضنا كبيرا لمشاغلهم وهواجسهم.. وهي مشاغل وهواجس ليس بها اي ادعاء (كادعاء تغيير العالم.).

المشغلة والهاجس هي الحياة فقط!