بحث هذه المدونة الإلكترونية

2009/10/01

حوار مع المسرحي معز القديري: فتح سوق الدراما مغاربيا سينتشل مبدعينا من غربة المقاهي


على العكس تماما من شخصية «زاك» في شرّها وتوترها الدائم وفي حيرتها وقلقها الوجودي، تتسم شخصية الممثل معز القديري بقدر عال من الأخلاق وبالاعتداد بالنفس وخاصة وضوح الرؤية في مشروعه الفني.

معز القديري مثال حيّ لفورة الشباب المتزنة ولإتّقاد طموح جيل يصر على سرقة النجوم اللألاءة وسط الظلمة التي باتت تسور دربه وتمعن في تكريس الاسماء المستهلكة حدّ الهلاك على حساب الطاقات المتناثرة...

عقد من الزمن وأنت على خشبة المسرح، فهل كنت تتهيأ للظهور في التلفزة بالشكل المتميز الذي شاهدناه من خلال دور «زاك» في نجوم الليل»؟

ـ هناك جانبان، جانب الوضعية وجانب الخيار، وكل وضعية تنتج بالضرورة خياراتها، الوضعية الموجودة تتسم بقلة الاعمال الدرامية و التي تكتفي في الغالب الأعمّ بالوجوه المستهلكة، وكأن الدراما التونسية حققت اكتفاءها الذاتي من الممثلين، وهذه الوضعية تحتم على الممثل خيارات معيّنة، فإما ان يعاود دائما المشاركة في اي عملية كاستينغ، أو أن يسعى الى بناء مسيرته بالطرق المتاحة له، أنا شخصيا اخترت ميدان المسرح ولم آت بمحض الصدفة وأخرت وقتي بعد التخرّج من المعهد العالي للفن المسرحي 2003 ثم واظبت على التكوين لمدة 4 سنوات وهو ما سمح لي بالدخول لعالم المسرح كممثل ليكبر الهاجس وأطرق ابواب الاخراج المسرحي وبداية من 2006 أخرجت اول عمل خاص بي وهو مسرحية «هيدروجان» وخلقت اطارا ومنظومة خاصة بي أتحرك ضمنها حاولت من خلالها تحقيق ما أمكنني من إكتفاء ذاتي ابداعي ومن اشباع فني كما حاولت قتل اللهفة على البروز في الشاشة.

تشبثي بطموحاتي مكّنني من خلق مشروع فني لا يشبه احدا سوى معز القديري، وصارت التلفزة بالنسبة لي إما ان تضيف لتجربتي وتتناغم مع مشروعي الفني وإما فلا.
المسرح يعلمك ان تحمل خطابا وأن تقتنع به وتدافع عنه ولذلك لم أكن مستعدا للظهور كوجه لمدة يوم او يومين، كنت أرفض ولازلت الظهور الكمّي أو الظهور لغاية الظهور.

ولكنك ظهرت في أكثر من عمل سينمائي؟

ـ في السينما، ظهرت في فيلم «بين الوديان» لخالد البرصاوي وتقمصت شخصية رئيسية تحمل خطابا وتحكي عن معاناة حقيقية تدفعك للتماهي معها.

كذلك في الافلام القصيرة التي ظهرت فيها مثل «عين وليل» وكذلك في «نسمة وريح» وفي "الضو في البحر» وهذا العمل الاخير يندرج ضمن ما يسمى سينما الفكر، وهي سينما دوغمائيّة نوعا ما وقد لعبت فيه دور حارس القرية الذي يمنع أهلها من الرحيل عنها وكذلك في فيلم «سويعة آذان» لعبت دور منشط اذاعي وكنت حاملا لصوت الشعب...

كل الشخصيات التي قبلت تقمصها لم تكن شخصيات اعتباطية او هامشية بقدر ما كانت شخصيات اشكالية تحمل دائما نقاط استفهام...

الى أن تقمصت شخصية «زاك» في مسلسل نجوم الليل!؟

ـ منذ البدء وفي اطار طبيعي وبظروف مثالية تم لقائي بكاتبة المسلسل ومخرجه، ومنحوني الثقة التامة من خلال الدور، وطبعا تجربتي المسرحية خوّلت لي تقمص الشخصية التي قدمتها.
مروّج المخدرات شخصية حديثة في الدراما التونسية ولذلك تطلب آداؤها جهدا مضاعفا من حيث البحث في اعماقها والنبش في تفاصيلها اليومية حتى تتمكن من معايشتها فعلا.
«
مروّج المخدرات» كنا نسمع عن هذه الشخصيّة الاجتماعية وصرنا نشاهدها، بل انها كانت شخصية شبه اسطورية وصنعت الاف الحكايات في المخيال الشعبي وصارت محور حديث الشباب وهذه الخصوصية هي التي تخوّل لمن سيتقمّصها ان يتحمل المسؤولية كاملة في اخراجها على الوجه الذي يجب ان تظهر عليه. شخصية «زاك» سقطت في الجانب المظلم من الحياة، شخصية تعيش حالة قلق وجودي وكوابيس وخوف، هي شخصية تراجيدية بكل المقاييس.
في «نجوم الليل» قدمت الشخصية في حالتها القلقة ولكن ايضا لم ننسى الجانب المشرق فيها، اي محاولة «زاك» التخلص من «محنة المخدرات» ولكن احداث المسلسل حتّمت ان تكون لحظة الوعي هي لحظة نهاية هذه الشخصية.

وهذا الاختيار مقصود طبعا، فالعبرة من شخصية «زاك» تتمثل اساسا في ان العدميّة هي المآل الطبيعي لمن يتجاهل انسيته الكامنة فيه، وان السعادة والرضا عن الذات لا تتحقق الا بالبحث في الذات والغوص في اعماقها.

هناك أسطورة معروفة، هي أسطورة ايزيس عندما جمع كل الآلهة وسألهم: أين يمكن ان نخفي السعادة والحقيقة؟ فاختلفت الآلهة عن موضع السعادة الأمين أهو أعماق البحر أم باطن الأرض أم لا متناهي السماء، الى ان أجابهم ايزيس بأن أعماق الذات البشرية هي المكان الذي يتجاهله الإنسان ولا يبحث فيه وهي بالتالي المكان الاكثر أمانا للسعادة والحقيقة...هذه الأسطورة حاولنا أن نجملها ونقدمها من خلال شخصية «زاك» التي كانت في ظاهرها شريرة في حين كانت في باطنها تعاني الصراع الابدي و التمزّق بين الشر والخير.

يبدو ان للمسرح فضل كبير في شحنك بتلك الطاقة الخلاقة التي تجلت في ظهورك التلفزي حضورا وآداء؟

ـ المسرح هو المخبر الحقيقي لاكتشاف الطاقة الكامنة في كل انسان وهو الذي يمكنك من التحكم في الادوات والقدرة على التركيز لمواجهة الجمهور وجها لوجه من دون مساحيق او آلات تصوير.

كما يوفر لك متعة لا متناهية، هذه الخصوصيّة المسرحية كلما تمكنت منها كلما لازمتك في حلك و ترحالك وبالتالي من الطبيعي ان تجيد توظيفها امام الكاميرا...

المسرح يدرّبنا على العيش الحقيقي بصدق ، وبعفوية الحياة ولا يوهمنا بأن الاقتراب من الشخصية التي نتقمصها يحتم علينا ان نمثل بشكل جيد، ومثلما تقول العرب «أنفذ من السهم الى القلب كلمة صادقة»، بمعنى ان يكون الممثل في خدمة الشخصية لا في خدمة شخصه، وكلما تقلصت نرجسيته امام الكاميرا كلما تماهى مع الشخصية التي يقدمها، وهذه غاية لا يبلغها الا الممثل الذي يحترم مشاهديه.

ولكن هناك العديد من الممثلين القادمين من خشبة المسرح ومع ذلك فشلوا في تقمص أدوارهم التلفزية، فكيف تفسر ذلك؟

ـ ببساطة كل من يفشل في دور تلفزي وهو ابن المسرح فهو بالضرورة لم يستوعب بعد ان المسرح عمل يومي وجهد دؤوب يتطلب الحفاظ على أدواته المسرحية وتطويرها بالثقافة وبالمشاهدة.
الممثّل الذي يقتنع بأنه قادر على لعب كل الادوار هو الممثل الذي بلغ بداية نهايته.
في أمريكا اخترعوا ما يسمى بممثل الاستوديو «Acteur studio» لإيمانهم بأن التمثيل هو بالفعل جهد يومي ولذلك ننبهر بأدوار» روبارت دينيرو» و «ألباتشينو»، فهؤلاء قضوا سنوات من العمل في الاستوديوهات، كذلك «توماس ريتشارد» الذي جمع ممثلين من جنسيات مختلفة من العالم ليتدربوا الساعات الطوال يوميا، وقد شاهدت احد اعمالهم في احدى دوراتهم التكوينية بالحمامات.

الثابت ان نجاح مسلسل «نجوم الليل» تظافرت فيه عدة معطيات لعل ابرزها الكتابة الجديدة؟

ـ أطول مشهد في السيناريو لم يتجاوز الصفحة الواحدة وكأنه كُتب اساسا للسينما بإيقاعه المتسارع، ثم ان المخرج «مديح بالعيد» هو مخرج سينمائي بالاساس وتعامل مع اكبر المخرجين في السينما العالمية وهو ما مكنه من خلق توجه كامل في الكتابة وايضا لا ننسى مدير التصوير" بشير المهبولي"

اجتماع هذا الثلاثي، الكاتبة «سامية عمامي» و المخرج «مديح بالعيد» ومدير التصوير "بشير المهبولي»، وطبعا لا ننسى رغبة قناة حنبعل في تحقيق الاضافة والخروج عن السائد والمألوف، لا يمكنه الا ان ينعكس ايجابا على أداء الممثلين وعلى كامل الفريق التقني الذي أمّن تصوير مشاهد المسلسل.

الكتابة الجديدة قدمت لنا وجوها قديمة بشكل مغاير تماما، وأخرجت منهم في 15 حلقة ما لم نشاهده طيلة سنوات طويلة ولعل المثال الأنسب هشام رستم ومحمد كوكة.
الكتابة الجديدة ايضا ساهمت بشكل ملحوظ في سرعة اندماج الوجوه الشابة مع أدوارها أولا ومع باقي الأدوار ثانيا حتى اننا في هذا العمل لم نعد نفرق بين الوجوه القديمة والوجوه الجديدة، فالكلّ انصهر في كتلة من الابداع والاضافة، وهذا ما انطلقت فيه الدراما السورية والمصرية منذ سنوات قليلة ففي مسلسل باب الحارة لبسام الملا مثلا لا نلاحظ وجود اي فرق بين الممثل الكبير «عبد الرحمان التراشي» وبين الوجوه الجديدة ، فالكلّ اصبح في خدمة الفريق لا في خدمة ذاته.

هناك سؤال يتردد كل سنة، لماذا لا ننتج الاعمال الدرامية الا في رمضان؟ ولماذا مع كل عمل درامي تثار دائما مسألة أحقية هذا الممثل او الآخر من عدمها في التمثيل وهل يمكن اختزال حل المسألة برمّتها في اعتماد بطاقة الاحتراف او ما يسمى الثلثين؟

ـ في علاقة بالانتاج الموسمي، هناك معضلة حقيقية تتمثل في عدم تسويق الانتاج الدرامي التونسي بسبب «الاسطورة» التي صنعها أخوتنا المشارقة والمتعلقة بعائق اللهجة، وهي ليست صحيحة، لأن تجاوزها امر بسيط، فيكفي ان يتعود مشاهد سوري او مصري او خليجي على لهجتنا حتى يتمكن من فهم كامل العمل، اضافة الى ان الراعي الوحيد للأعمال الدرامية هي الدولة التي تضع المليارات كل سنة في انتاج مسلسل او مسلسلين وهذا راجع الى ان المنتجين لديهم حالة من التوجّس والخوف من خوض غمار الانتاج التلفزي، رغم ان توجه الدولة يسعى الي تكثيف العمل الدرامي، لكن الدولة بمفردها لا يمكنها ان تضمن انتاج عشرة اعمال مثلا في السنة، ونلاحظ مثلا في سوريا او مصر غياب القطاع العمومي عن الانتاج فأغلب المسلسلات هي من انتاج خواص وتحديدا رؤوس الاموال الخليجية.
علينا ان نعرف كيف نغري المستثمرين والمنتجين او على الاقل نفتح سوق مغاربية مشتركة ونخلق حركة تبادل درامي بين الاقطار المغاربية الخمسة.

عائدات الاشهار لا تكفي لتكثيف الانتاج الدرامي والعشرة ملايين الذين يشاهدون عملا ما يمكنهم ان يغطّوا تكلفته المالية، قناة نسمة مثلا بدأت تشق الطريق نحو هذه المبادرة ويكفينا اتكالا على مهرجانات الاذاعة والتلفزيون والتحصل على جائزة افضل ممثل شاب!!!

ومسألة بطاقة الاحتراف والثلثين؟

ـ المسألة مرتبطة كما أسلفت الذكر بقدرتنا على فتح سوق حية ومتحركة وساعتها سيغامر المنتج وسنكتشف مخرجين متميزين واكثر من سيناريست سيخرج من صمته وحيرته «الوجودية» ويثبت وجوده وكذلك سينتشل كل ممثل من المقهى ليجد نفسه في موقعه الطبيعي وهو استوديو التصوير.

اما مسألة الثلثين فهي متعلقة اساسا بالمسرح، فالدولة تقدم دعما للمسرح يناهز المليارين سنويا فمن الطبيعي جدا ان تكون هذه العائدات لأصحاب بطاقات الاحتراف اما الموهبون فعليهم بالمثابرة والجهد ليتحصلوا على أحقية ان يكونوا ممثلين محترفين.

الى جانب مشاركتك في مسلسل نجوم الليل، أنت ايضا مخرج مساعد لمسرحية made in tunisia التي لاقت رواجا جماهيريا منقطع النظير، فكيف تقيم هذه التجربة؟ وهل سيؤسس لطفي العبدلي فعلا نهجا جديدا في مسرح الممثل الواحد؟

ـ مسرح «وان مان شو» يبقى رائده الامين النهدي وأعتقد ان هذا النوع يعيش أوجه في السنوات الاخيرة حيث تتالت التجارب من آدم العتروس وجعفر القاسمي ووجيهة الجندوبي وسفيان الشعري وصولا الى لطفي العبدلي، ما أضافته مسرحية «صنع تونسي» هي الكتابة المعاصرة وخلق الفرجة من خلال الاضاءة والموسيقى وحركة الممثل وغياب الديكور والأكسسورات، وايضا عفوية وصدق الممثل الذي جعله قريبا جدا من الجمهور وكذلك طبيعة مضمون النص وحرفية لطفي العبدلي الذي عرف كيف يقوم بعملية جرد وتكثيف لثلاثة عقود من تاريخ تونس وتقلبات المجتمع والتطور الذي حصل للمواطن التونسي، ولذلك فإن المشاهد الذي تابع هذا العمل لم يجد نفسه غريبا عنه وهو ما ضمن كثافة الجمهور حيث سجل دخول احدى عشر ألف متفرج في مهرجان قرطاج وصنفت المسرحية جماهيريا الرابعة بعد عرض صابر الرباعي وشارل أزنفور وأمينة فاخت.
وأعتقد ان أهم ما نجحت فيه المسرحية هو مصالحة الجمهور مع ركح المسرح، وقد يعتقد البعض ان هذا العمل كوميدي بالأساس في حين أن كل الوضعيات الكوميدية في المسرحية تم بناؤها دراماتورجيا على أساس الكوميديا السوداء وبُنيت على إثارة نقاط الاستفهام لدى كل من يشاهدها.

ولن أضيف على ما قاله النوري بوزيد وابراهيم لطيف بأن هذه المسرحية تعبّر عن "ثورة جيل يتمرد على السائد والمألوف ويتجاوز حدود المنطق السائد لصنع منطق جديد يشبه المرحلة التي نعيشها".