بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/08/20

مقاولات ثقافية

يبدو أن مصطلح "الثقافة المؤسسة" قد دخل طور الانقراض من أوسع أبوابه، بعد أن تم "تحرير سوق الثقافة" بشكل غير معلن، وفتح الباب على مصراعيه للأفراد والمؤسسات التجارية ذات الغطاء الثقافوي للاستثمار والاتجار في السياق الثقافي... بذهنية المرابين...

فمثلما تفيض اليوم الفضاءات التجارية الكبرى والأسواق المنظمة والموازية بالسلع القابلة للتلف والإتلاف بعد أول استعمال، تفيض سوق الثقافة بالمنتجات المعلبة في المسرح والسينما والموسيقى ومختلف الفنون الأخرى، وبلغنا ما يعرف بالطفرة الاقتصادية في الإنتاج "الثقافي"...

اليوم، وفي متحف الذاكرة الوطنية، ترقد تلك التيارات المسرحية والحركات الأدبية والمدارس السينمائية والتشكيلية التي وسمت المشهد الثقافي الوطني بميسم الحركية والإضافة النوعية في أطار التنافس الفكري والثقافي البناء والمؤسس للثقافة الوطنية في السياق الحداثي لبلاد تنفتح على الفضاءات الأخرى المختلفة والثقافات المغايرة من المشرق والمغرب...منذ ثلاثينيات القرن الماضي... لتصاب في العقدين الأخيرين بالسكتة الإبداعية...

تخفت تلك الحركة البناءة ليسري ويتأجج "النمش الثقافوي" في جسد الثقافة الوطنية وينتشر كالداء في مفاصله تشويها وتخريبا... وتدميرا...

تنتصب أكشاك الثقافة لتبيعنا معلباتها الفاقدة للصلاحية، أو المنتهية المفعول بعد أول عرض لها، وتنتصب "حضائر" الثقافة هنا وهناك فتستعر حمى المقاولات وينشط سوق البيع والشراء ويتناسل الوسطاء والسماسرة للتسريع ببيع المنتوج الوفير وعقد الصفقات دائما وأبدا... أما الشعار المركزي المرفوع فهو "ذراعك يا علاف".

ومثلما كتبت سابقا في هذه المساحة، هناك جيل تقاعد "إبداعيا" فبات يستثمر اسمه ليستأثر بكل شيء... وجيل سيخفت بريقه لشده ما ضاق به السياق... وما بينهما جيل يتهافت هنا وهناك...جيل يعتبر نفسه المتن وما سواه هامش... وجيل ينخره السوس لشدة ما هُمش... وما بينهما جيل يتأرجح على الحبلين...

فالمتأمل في "ثقافوت" هذه البلاد والممتهنين بالثقافة عموما، سينتبه دون عناء إلى وجود أكثر من فئة تصول وتجول في الحقل الثقافي كالجرذان المسعورة التي لا تكل ولا تمل من الأكل والتخريب.

فئة أولى "أكلت الدنيا وتريد أن تتسحر بالآخرة" وهي تضم أولئك الذين نضبت منابع إبداعاتهم فباتوا يستثمرون ارثهم وتاريخهم، وطبعا علاقاتهم، ويكفي أن يضع واحد منهم اسمه على أي عمل بسيط، لا إبداع فيه، حتى يلهف مئات الملايين...

فئة ثانية تضم المسيرين والمسؤولين ومنظمي "موائد الإفطار الفني والإبداعي" الذين يلهفون الأموال في السر والعلن... ولا رقابة على أياديهم المندسة أبدا في ميزانيات مؤسساتنا الثقافية... واغلب المتنفذين في المؤسسات الثقافية...

فئة ثالثة لا علاقة لها أصلا بالثقافة، قفزت إليها من نافذة رأس المال، فباتت "تغرف" ملء جشعها ما أمكنها من أموال الشعب والثروة الوطنية قفزت على الإعلام واندسّت بذلك في كلّ بيت دون استئذان تسوّق مؤثراتها الصوتية وأحدث تقنيات التقاط الصورة مستندة إلى الإبهار وأشياء أخرى أما عن المضمون فلا تسأل...

إني أرى صرحنا الثقافي يتهاوى مثلما تتهاوى تلك المباني التي يرفعها مقاولو الغش وتدك أعمدتها وتتناثر حجارتها... هكذا نكون قد بادرنا ونحن أصحاب الريادة دوما، استقبال نهاية العالم في 2012... لو صدقت نظرية نهاية العالم وفق تقويم شعوب "المايا"...

هكذا نحن أعددنا العدّة لأجمل أشكال الفناء...الفناء ثقافيا وإبداعيا وحضاريا ؟؟؟

من الصعب علينا أن نحب وطنا نلهث لامتلاك ثرواتها وتبديدها...