بحث هذه المدونة الإلكترونية

2010/09/06

توم وجيري في تونس العاصمة


ما يزال نهج شارل ديغول وبعض الانهج والأزقة المتقاطعة معه أو المتفرعة عنه مرصعا بالباعة المنتصبين على طرفيه ومزدحما بأصواتهم المنادية على السلع المعروضة فوق الأرصفة... ولا يزال أيضا اغلب المواطنين يلوذون بهذه السلع لأسعارها البخسة... ولا يزال أيضا أعوان الشرطة البلدية يطاردون باعة الشوارع "صباحا مساء ويوم الأحد" وينهكون جيوبهم الخالية بالخطايا المالية التي قد تتكرر أكثر من مرة ولا تدون بمحاضر رسمية في اغلب الأحيان...

علاقة متوثبة دائما وأبدا بين باعة الشوارع وأعوان الشرطة البلدية،علاقة كر وفر تذكرني بنوبات الضحك التي تعتريني وأنا أتابع سلسلة توم وجيري الكرتونية، حيث لا يمل الفأر توم من المشاغبة وإتقان الحيل ليتلهى بالقط جيري المفرط في غبائه... فنفس المشاهد تقريبا يرصدها كل من يمر بشارع شارل ديغول أو نهجي اسبانيا وهولندا وغيرها... ونفس نوبات الضحك تتملك العابرين والمتسوقين ولكنه ضحك مر، يقطر ألما وشفقة على أولئك الباعة الذين باعتهم الحياة قبل أن يولدوا حتى...

مشاهد سينمائية تتكرر مليون مرة في اليوم الواحد... استجداء وتعنت... ترصد ومباغتة... هجوم وفرار... لخصمين هما بالنهاية ضحية لطرف خفي يحركهما كيفما شاء... يمنح البضاعة بيد وبالأخرى يصدر أوامره لافتكاكها متى عنّ له ذلك ليعيد بيع نفس البضاعة أكثر من مرة في اليوم الواحد...

ظاهرة الانتصاب العشوائي تطرح أكثر من نقطة استفهام: طريقة الانتصاب، نجاعة الحلول، مصادر البضاعة، مدة صلاحيتها، كيفية دخولها، من يستوردها، ومن يصادرها من الشارع... ويبقى السؤال الأهم ذاك المتعلق بمصير أولئك التعساء الأشقياء المنثورين نهارا بشوارع العاصمة وليلا بوكائلها؟؟؟

أسئلة قد تتناسل من جمجمة سوسيولوجي مختص في دراسة الظواهر الاجتماعية... أسئلة تسقط من إحصائيات عالم اقتصاد يتقن دراسة تحولات السوق وطبيعة رأس المال المالي والرمزي... أسئلة تسقط من أبحاث انتروبولوجي يشتغل بالفئات المهمّشة والمفردة خارج الحلقات الاجتماعية المقنّنة... أسئلة تسقط من أوراق منظمة الدفاع عن المستهلك المهيأة سلفا للدفاع عن سلامة المواطن وترشيد رغباته...

إن تقاطع ثنائية الحق والواجب وثنائية الوطن والمواطنة تمثل إفرازا لعلاقة ذات طبيعة أفقية تمرّ حتما عبر الاحترام المتبادل بين الطرفين: أفراد النظام وجمهور الشعب، وهي لن تستقيم مطلقا أن ظلت خاضعة لمنطقها العمودي المبني على القمع والردع والابتزاز والعنف المادي والرمزي الذي لن يفضي إلا إلى التمرد والعصيان والهيجان...

إن الخيط الرفيع الذي يفصل تلك العلاقة العمودية السلبية عن العلاقة الأفقية المتوازنة هو ذاك الحلم الصغير الذي يربّيه طفل ما كامل اليوم وهو يبيع الولاّعات أو البالونات على رصيف إحدى الشوارع... حلم بان لا يطارده شرطيّ البلدية... حلم بان يأكل خبزه ويقلع عن التسكّع ليلا والسكر في الزوايا المظلمة... حلم بأن يتابع السلسلة الكرتونية "توم وجيري" في بيته مثل كل الأطفال ولا يكون طرفا فيها...