بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/03/11

أقبية وزنازين 9 افريل وبرج الرومي ورجيم معتوق وأدب السجون شواهد:

البوليس السياسي ذهنية وليس ادارة

أرفع قبعتك أيها الوطن

ناجي الخشناوي

يمثل الامن أنبل الوظائف وأهمها في المجتمعات الديمقراطية التي تحترم مواطنيها وتعلي حريتهم، فجهاز الامن بمختلف تفرعاته ومهامه يسهر على تأمين وحفظ سلامة المواطن والمؤسسات ويحفظ هيبة الدولة...

غير ان هذا الجهاز يُسْتَعْمَلُ في الانظمة الديكتاتوية والشمولية كأداة قمع ووسيلة لترهيب المواطنين، وقد مثلت تونس في العهد السابق والذي سبقه ايضا مثالا ونموذجا سيئا في توظيف هذا الجهاز بامتياز لقمع المواطن والمناضل والحقوقي والطالب، واصبح رجل الأمن في ذهن المواطن »الحاكم« بعد ان مثَّل البوليس العصا الغليظة التي ضرب بها نظام بن علي على جسد البلاد طيلة ثلاثة عقود منذ ان كان وزيرا للداخلية حتى اخر يوم له في الاستبداد.

وغير خفيّ ان علاقة التونسي بالبوليس صارت علاقة مشوّهة ومبنية على منطق الكره والرفض اذ تتالت وتنوعت وجوه هذه العلاقة التسلطية بين البوليس السياسي والمواطن التونسي، فمن الملاحقات والمداهمات الى التعذيب في السجون مرورا بالايقافات وتلفيق التهم وصولا الى الرشاوي واستغلال النفوذ والوظيفة لتجاوز القانون والتستر على المخالفين له في عمليات التهريب خاصة عبر الحدود.

وجذور القمع البوليسي ضاربه في تاريخ تونس الحديثة، فمن قمع اليوسفيين الى اغتيال فرحات حشاد واعدام مجموعة الأزهر الشرايطي وقمع النقابيين وتصفية الخصوم السياسيين والناشطين الحقوقيين وخاصة مناضلي حركة آفاق والعامل التونسي ومناضلي »الشعلة« وكل التيارات اليسارية الاشتراكية والقومية مرورا بتصفية العسكريين بتهمة الانتماء الى حركة اسلامية محظورة والتخطيط الى انقلاب عسكري وصولا الى ضرب الرابطة التونسية لحقوق الانسان واتحاد الطلبة وزرع أعين المخبرين والمرشدين داخل وامام الاتحاد العام التونسي للشغل بكل مقراته وايضا كل مقرات المنظمات والجمعيات المستقلة... مثل جمعية النساء الديمقراطيات وجمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية والفرع التونسي لمنـظمة العفو الدولية والسجل الاسود لهذا الجهاز يطول وقد لا ينتهي...

وحتى لا نظلم اعوان الامن، فإن بعضهم خدم البلاد بكفاءة، ولا زالوا، ولم يتورطوا في ممارسات لا قانونية ولم يستخدموا صفاتهم الوظيفية لقضاء مآربهم الشخصية، بل ان العديد منهم عانى الويلات لإنضباطه ونزاهته وسُلّطت على الكثير منهم عقوبات جائرة كالنُّقل التعسفية وحرمانهم من منحهم واحالتهم على التقاعد الاجباري.

اليوم، وبعد بلاغ وزارة الداخلية للقطع »نهائيا مع كل ما من شأنه ان يندرج بأي شكل من الاشكال تحت منطوق البوليس السياسي من حيث الهيكلة والمهمات«، وبعد الغاء ادارة أمن الدولة وحل التجمع الدستوري الديمقراطي فان صفحة القمع والظلم وانتهاك الحريات الفردية والعامة ستظل تتلاقفها النزعات والرغبات لأن المسألة تتجاوز حل جهاز اداري لم يكن محايدا ابدا عن المشهد السياسي والنقابي والثقافي والاعلامي والاقتصادي...

المسألة ليست بتلك البساطة التي نعلق بها نشاط هذه الادارة او تلك، او ندير مفتاحا في قفل هذا الباب لأنه »باب بلاء وخراب« فالبوليس السياسي لم يجلس الى طاولة وكرسي في مكتب معلوم من مكاتب وزارة الداخلية بقدر ما أخذ شهادة اقامة دائمة في ذهنية التونسي وعقليته.

هذا الجهاز، الذي لم نعرف حجمه الحقيقي الى الآن، يصعب تحديد ملامحه ومعرفة حجم تغلغله في الكيان المجتمعي، اذ ان البوليس السياسي تضخم كالورم في الجسد التونسي وتجاوز ما يعرف بفرق الارشاد لدى الشرطة وفرق الابحاث والتفتيشات لدى الحرس أو »الفرق المختصة« وتجاوز بعض موظفي الدولة / الحزب، من العُمَدِ ورؤساء الشعب الترابية والمهنية، تجاوز أطره المفترضة ليَدُبَّ كالطحلب السام ويعشش في كل مؤسسة وادارة وشارع وحتى البيوت الشخصية لم تسلم من انفاسه وعيونه.

وقد زفت لنا بعض الايادي الثائرة في الايام الاخيرة جملة من »بطاقات الارشاد« التي تكتنز بها مخافر الشرطة ومقرات البوليس و »صُعقْنَا« من حجم »القوادين« والمرشدين المتعاونين مع هذا الجهاز فمن طبيب الاسنان الى الممرض والاستاذ ومدير المدرسة وبائع الدجاج وسائق التاكسي الى الصحفي والطالب الجامعي والكاتب والشاعر... وحتى الفلاحين تم »تجنيدهم« لجمع اخبار الناس وكتابة التقارير عن المواطنين.

كما ان شهادات المناضلات والمناضلين وكتبهم التي بدأت تصدر في الفترة الاخيرة، نذكر منها بالاساس كتب جلبار نقاش وفتحي بالحاج يحيى ومحمد صالح فليس وعبد الجبار المدوري... وغيرهم وثّقت بشكل كبير لِمَ أتاه هذا الجهاز في حق كل نفس تحرري بأساليبه الاخطبوطية وبما كان يوفره له نظام بن علي من تسهيلات وامتيازات، حتى صارت تونس أشبه بسجن كبير...

الثابت ان الخطوة المهمة قد اتخذت، وهي قرار حل جهاز البوليس السياسي وادارة امن الدولة، ولكن الخطوة الأهم هي التي ستتطلب حتما زمنًا طويلا لتحقيقها ـ خاصة ان الزمن النفسي سيمتد وقد يطول اكثر ـ لأن من شبّ على شيء شاب عليه ومن الصعب ان يتخلى عنه، ومن ثقلت موازينه بالقمع واداوته خفت منه نسائم الحرية ومن العسير ان يتنازل عن ذاكرة وسلوك التصقا به كالتصاق الآلم بالجرح واستوطنت دهاليز وسراديب وعيه ولا وعيه... مثلما وطّنوا هم صراخ وألم المناضلات والمناضلين داخل دهاليز وأقبية وزارة الداخلية والسجون.