بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/12/07

ذاكرة الجماعة/السلطة

الذاكرة ليست ملكا شخصيا محضا. إنها مشترك جماعي بامتياز...
وإن كنا نمتلك القدرة على الاحتفاظ بصُوَر ولغة الذاكرة الشخصية، فإنَّ ذاكرة الجَمَاعَة تفلتُ من عُقَالنَا وتنسحب بلطف وبلين من كل قيد نحاول أن "نعتقل" به الأفكار والصور والأحداث واللغة في داخلنا، فهناك جهاز متماسك يقف بالمرصاد لمخزون ذاكرتنا ويتحكم في رصيدها إن ترسيخا أو إتلافا، هذا الجهاز هو ما قيل أننا اصطلحنا عليه "جميعا" بالدولة أو السلطة وخضعنا أو أُرغمنَا على الخُضوع لآلياته طواعية.
هذا الجهاز المُنتشر كالإله في كل مكان وفي كل زمان، يُتلف مسودَّاتنا القديمة ويمنحنا أوراقا بيضاء جديدة لنعيد الكرّة في كل مرّة، ومع كل مرة نتهم ذاكرتنا الفردية بالخَرَف والتَّرَهُّل ونجدد "ثقتنا" في ذاكرة الجماعة... ذاكرة السلطة.
نرمي في سلة الأيام ما نشاهده بأعيننا وما نلمسه بأيدينا مثلما نلقي الصحون والأكواب البلاستيكية في سلة المهملات... نُتلفُ تفاصيلنا ونجري كالأطفال فرحين بما تزفُّه لنا ذاكرة الجماعة/السلطة من أحداث وأخبار وصور ولغة فنصدقها تماما، ونتبناها دون تردد لأن "الجماعة" شاهدتها في تلفزة السلطة، أو قرأتها في صحف السلطة، أو سمعتها في إذاعة السلطة...
فمن منا يمتلك الجرأة على تكذيب ما يجمع عليه الجماعة؟ ومن منا قادر على تصديق ذاكرته وتكذيب ذاكرة السلطة؟
يَذكُر جاك داريدا في كتابه "حمّى الأرشيف الفرويدي" أن كلمة أرشيف "Arkhe" هي اسم يُفيد معنى البَدء "Commencement" ومعنى الأمر "Commandement" في آن، ومن هذه الإحالة يمكننا التأكد أن "الذات" كلما تَجَاسرت وحاولت "البدء" في تنظيم وترتيب أدراج ذاكرتها الفردية يأتيها "الأمر" من السلطة أن كُفي عن ذلك وامتثلي لذاكرة الجماعة، للذاكرة التي ارسم أنا حدودها واضبط سياستها.
إن السلطة لا تملك المؤسسات والإدارات والمصانع والدبابات والأدوية والطرقات والجسور... مثلما نتوهم ذلك، إنها تملك ذاكرة كل فرد منا، تلك التي تمر بها مختلف سلوكاتنا وقراراتنا المعرفية، النفسية، الاجتماعية أو الحركية... الذاكرة التي تمر بها عملية الإدراك، والتعلم والتفكير والحب وحل المشكلات والتكلم... "مخزننا" الحميمي لأحاسيسنا وانطباعاتنا وتجاربنا الحياتية التي نكتسبها من تفاعلنا مع العالم الخارجي ومع الآخر المختلف.
فمثلا لو حاول أحدنا أن يسترجع بداية تدرُّبَه على المشي لفشلَ في ذلك وستخذله ذاكرته الفردية في استحضار أهم لحظة في حياته، وفي المقابل فان ذاكرة الجماعة/السلطة تمنحنا مباشرة ذكرى أول اصطفاف في المدرسة... مثلما لن تفلح ذاكرتنا الفردية في استحضار حرارة حليب أمهاتنا في الوقت الذي تجعلنا ذاكرة الجماعة/السلطة لا نختلف حول ماركة علبة الحليب التي نشاهدها يوميا في الإشهار...
كذلك ذاكرتنا الفردية قد تكابد لتسترجع بعضا من تفاصيل أول قصة حب مراهقة، في حين تمنحنا ذاكرة الجماعة/السلطة أدق جزئيات علاقتنا الزوجية باعتبارها علاقة رسمية تخضع لنواميس المؤسسة المجتمعية... مثلما لا تتأخر ذاكرة الجماعة/السلطة في تفعيل ذاكرتنا من خلال موعد أخبار الساعة الثامنة وتحرمنا من استعادة أول الأفلام الكرتونية التي شاهدناها في طفولتنا...
ذاكرتنا الفردية غالبا ما تخذلنا عندما نرغب في استحضار فكرة ما من كتاب تعلقنا بتفاصيله، ولكن ذاكرة الجماعة/السلطة لا تبخل علينا بتذكر عناوين الكتب التي "أمرت" بنشرها في واجهات المكتبات وأدرجتها في برامج الدراسة الرسمية... وتفشل ذاكرتنا اليوم في تذكر رسوم "الغرافيتي" الثورية على جدران القصبة وفي شارع الحبيب بورقيبة وعلى جدران الإدارات والمؤسسات، تفشل ذاكرتنا لأن ذاكرة الجماعة/السلطة تدججنا بصور سيدي بوسعيد والملابس التقليدية....
ذاكرتهُ تخشى أن تتذكر أول مرة داعبت فيها شفرة الحلاقة ذقنه تاركة خدوش الارتباك والخوف من افتضاح أمره أمام والده، وذاكرتها تخشى أن تتذكر أول مرة لاعبت أصابعها ضفيرة شعرها المجدولة... ذاكرته تخشى أن تتذكر ذلك لأن ذاكرة الجماعة أطالت لحيتها، وذاكرتها تأبى أن تتذكر ضفيرتها لأن ذاكرة الجماعة ألقت حجابا أسودا بين شعرها والريح...
ذاكرة الجماعة/السلطة، تقدم لنا طقوسا "مقدسة" لموتنا الفردي، وتمنحنا "خيالا" جماعيا مُعدّا سلفا لطريقة دفن جثثنا الهامدة. إنها "تُبدع" في تذكير ذاكرتنا بعذاب القبر وأهواله وتؤلف في ذلك الكتب وتوزعها في الأسواق، وتسجل الأقراص الليزرية وتبيعها للناس، وتنتج برامج تلفزية يقدمها الأوصياء الدائمون على الذاكرة الفردية، الناطقون باسم ذاكرة الجماعة... إنها تفعل كل شيء وكأنها ستموت عوضا عنا وتُقبر مكاننا... أو كأنها تُبدي "تعاطفها" مع مواطنيها الأموات (وهل كانوا أحياء حتى يموتوا!!!)... إنها تستولي على أرضنا باسم سمائها... وتجعل كل فرد منا يردد مع تلميذ نيتشة، جول دي غولتييه، ما قله في كتابه (البوفارية) " الأنا، الأنا الذي ما هو إلا محض عنوان عام، محض تمثل مجرد، كالحاضرة أو الدولة، مأخوذ هنا على انه كائن محبو بوحدة فعلية".
إن ذاكرة الجماعة، أي ذاكرة السلطة، تلوي عنق الذاكرة الفردية وتطويها بإتقان متناه ثم تضعها تحت إبطها لتصنع منها ذاكرة "مُنضبطة"، "مُطيعة"، "وَديعة"، "مُسالمة" و"خَاضعة" بشكل "وَاع"... ذاكرة لا تُدون يومياتها إلا تحت رقابة السلطة، ولا تستحضر تفاصيلها إلا بأمر الجماعة... ذاكرة "Jetable" قابلة للإتلاف والتلف و"التتليف" متى أرادت ذلك ذاكرة الجماعة/السلطة... وهي دائما ما ترغب في ممارسة سلطتها "الناعمة" باسم "الجماعة" أكانت سياسية/اقتصادية أو دينية/أخلاقية.