بحث هذه المدونة الإلكترونية

2011/12/22

هدنة الرئيس المؤقت والشعبوية المفرطة

استأثر مصطلح "الهدنة" بالنصيب الأوفر من الخطابين الرسمي والشعبي منذ أن طلب رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي هدنة لمدة ستة أشهر على الأقل في أول لقاء تلفزي له ـ نتمنى أن لا يكون الأخير ـ بعد انتخابه لهذا المنصب من قبل أعضاء المجلس التأسيسي الوطني.
وبغض النظر عن التفسير اللغوي لمصطلح "الهدنة" (الذي يُناقض تماما التفسير الشائع، ذلك أن من بين تفاسير ابن منظور في لسان العرب لهذا المصطلح ما يفيد عدم إيفاء شخص ما بوعد قطعه على نفسه) بغض النظر عن هذا التفسير، وفي سياق الفهم الشائع والمتداول لمفردة "هدنة" في علاقتها بحالتي الحرب والسلم، فإن السؤال البديهي الذي يمكن طرحه على السيد الرئيس المؤقت هو لمن تتوجهون بطلبكم هذا تحديدا؟ هل تطلبون هدنة ممن يُعلن الحرب منذ عقود ويواصل بطولاته إلى اليوم؟ أم تطلبونها ممن اكتوى بنار الحرب منذ عقود ولا يزال إلى اليوم يتلظى بلهيبها؟.
اعلم أيها الرئيس المؤقت والمثقف والحقوقي أن هذا الشعب الذي بت تُطل عليه من ربوة قرطاج منقسم إلى طبقتين لا يلتقيان أبدا إلا لماما فوق الأوراق بين بعض السطور المرتبكة والمترددة أمام مصطلح "الطبقة" وفي تسمية الأسماء بمسمياتها...
اعلم أيها الرئيس أن هناك طبقة أولى ضئيلة العدد استأثرت بثروة البلد وكسرت عنق قانون البلد وصيرت كل ما فوق أرضه وتحتها قابلا للبيع والشراء، بما في ذلك "المواطن" الذي حولوه إلى سلعة في علب بعقود فاقدة للصلوحية. وهناك طبقة ثانية وفيرة العدد فاقدة لكل سند مشنوقة إلى الأبد بقروض قوانين هذا البلد، فممن تطلب الهدنة يا ابن البلد؟
عمال مسحوقون بهمومهم وموظفون مكبلون بقروضهم ولا شيء موزع بالعدل بينهم سوى وهم السعادة... تراهم بالملايين يتراصون في الحافلات الصفراء ويتدافعون في المستشفيات والمدارس ويتقاسمون غرف النوم الضيقة ورغيف الخبز اليابس، ويتناوبون على مغازلة أحلامهم البسيطة...
وهناك على الضفة المقابلة حيث تنتصب الواجهات البلورية يجلس بضع مئات من هذا الشعب مصابون بتخمة تكديس المليارات يوزعون وقتهم في التنقل بين غرف قصورهم وفي الجلوس على مقاعد الدرجة الأولى من الطائرات المتجهة إلى عواصم العالم هم وأبنائهم متسربلين بأفخم أنواع العطور... ماداموا معفون من دفع كل الأداءات الضريبية للدولة، التي استفردت بالمواطن المستضعف وأشبعته نهبا مقننا لملاليمه المعدودة، وها هي لا تتورع بكل صفاقة في مواصلة إيلامه اليوم بما تطلبه من جيبه المثقوب باسم الوطن والوطنية؟؟؟ فعلى من يجوز طلبك أيها الرئيس المؤقت؟ هل تطلب هدنتك من الموظف والعامل البسيط الذي تقتطعون كل أشكال الضرائب من أجرته الهزيلة غصبا عنه دون أن يتمتع بأدنى شروط المواطنة فوق هذه الأرض؟ أم تطلبون هدنة ممن منحتهم الدولة مفاتيح خزائنها وكدست فوق مكاتب شركاتهم ومصانعهم كل أنواع القوانين الضاربة لأبسط الحقوق وهاهي تواصل غيها مع ملح هذه الأرض ورائحتها وتعلن ولائها التام لرؤوس الأموال؟
أيها الرئيس، كف عن الإفراط في الخطابات والقرارات الشعبوية، وتذكر أن لك رصيدا من الفكر والثقافة والنضال لا يترك لك مجالا إلا لتحترم نفسك وموقعك وبالتالي مواقفك، وفي الآن نفسه أن تحترم ذكاء هذا الشعب...