بحث هذه المدونة الإلكترونية

2012/03/03

"بؤس الثورة" للطاهر أمين: البلاغة الثورية الرخيصة

في 112 صفحة من الحجم المتوسط كثف الكاتب التونسي والباحث في علوم الإسلاميات الطاهر أمين ضمن منجزه الممهور ببؤس الثورة، كثف ما يعتمل برأس المثقف التونسي والعربي على حد السواء ما حفرته الثورات العربية في ذاكرته ومما قد تفتحه من سياقات وجودية في هذه المنطقة الجغرافية التي باتت تشبه مرجلا لا يتوقف عن الغليان. كتاب "بؤس الثورة" الصادر منذ أيام عن مطبعة فنون الطباعة بتونس، لا يمكن تصنيفه ضمن الكتابات التأريخية للثورة التونسية أو الثورات القائمة الآن في بعض الدول العربية، وهو لا يخضع إلى جنس أدبي محدد، بقدر ما ينزع إلى الانفتاح عن الكتابة الحبرية الممشوقة برؤية ثاقبة تنهل من المعين الفلسفي والتاريخي لمفهوم الثورة وتأرجحها بين السيرورة والصيرورة. المنجز الجديد للطاهر أمين يمكن تصنيفه فيما يطلق عليه أمبرتو ايكو الأثر المفتوح، فكرة وكتابة، حيث اشتغل فيه كاتبه اقتناص اللحظات الفارقة في المسار الثوري وتكثيفها كتابيا ليخرجها عل شكل شذرات تفيض بالدلالات والعبر التي يمكن أن يقف عليها القارئ، وقد أبان الكاتب عن قدرة فائقة في استدراج القارئ إلى مدارات السخرية والتشكيك في هذه الثورة التي "يعيشها العربي بتفاؤل أسطوري غير مسبوق." ويبدو هذا الكتاب للوهلة الأولى وكأنه تداعيات حرة لكاتب مأزوم "لم ينتفع" من "خيرات الثورة"، غير أن قراءة متأنية للمتن ستكشف لنا أن "الثورة ليست إلا الإطار الأنسب لتعميق المعرفة بالذات" مثلما ينبهنا لذلك الكاتب، وهو المنطق الذي يطمح من خلاله الطاهر أمين أن يكون منجزه محاولة جادة للنظر في مرايا الثورة المتعددة،وربما لذلك تعددت المراجع الفلسفية والمعرفية التي اعتمدها الكاتب مثل ملحمة التكوين السومرية البابلية وحشد هائل من الفلاسفة والمفكرين على غرار ميشال سيوران وغوستاف فلوبير وأديب ديمتري وكارل ماركس وهيجل وأنجلز والروائية جورج صاند وسان سيمون وعبد الرحمان الكواكبي وشليغل وجورج جاك دانتون وجان كوندرسيه وماكس فيبير ومكيافيللي وروبيسبيار ونيتشه وميشال فوكو وانطونيو غرامشي... وحالة البؤس التي يلحقها الكاتب بالثورة (وهي في وجه من وجوهها بؤس الدولة العربية) مأتاها أن ربيع الثورات العربية ليس إلا وجها من وجوه الأزمة العميقة التي تعاني منها الديمقراطية في العالم، فمأزق غياب الديمقراطية في العالم هو الذي "يشرع" للغرب تدخله في الشأن السياسي العربي اليوم، ولذلك يصف الكاتب ما يحدث الآن وهنا بأنه "فتوحات يفتخر بها الغرب"، غير أن السؤال الجوهري الذي ينبثق من هذه المعادلة المختلة هو من سيحمل عن العرب ارث الاستبداد الشرقي الذي شكل "إضافتهم" الحضارية؟ بعد أن أخرج الغرب "الإنسان الطيب" من "مارستان الأفكار الحديثة" وفق نظرية نيتشه. الطاهر أمين يطرح ترسانة ضخمة من الأسئلة ذات الصلة بطبيعة هذا الربيع الثوري معتبرا أن ما نعيشه الآن ليس إلا حروبا أهلية بغطاء ثوري، ويبحث عن قرينة عقلانية عن أن ربيع الثورات العربية هو نتاج "الصحوة الإسلامية" منبها في ذات الوقت إلى أن الخاسر الأكبر هو التسامح في ظل تعاظم دور الدين مستقبلا واستحواذ "العربي الفصيح" عن الروح الثورية المفتقدة، التي تجتهد الليبرالية في تأبيد حالة الفقد والتضليل، وهو لذلك يحرضنا على التحرر من أكاذيب الليبرالية والإفلات من اقتصاد السوق وسلعنة الإنسان لئلا نقع في "تثوين" ربيع الثورات العربية وتحويل الثورة إلى صنم يباع في السوق الاستهلاكية، وهي التي صارت مفتوحة إلى ما لا نهاية بفضل انفجار تقنيات التواصل والاتصال. الثورة الفرنسية مثلت في الكتاب "بؤرة" قارة يعود إليها الكاتب كلما أراد الإمعان في السخرية من الثورات العربية، خاصة فيما تعلق بتلك التسمية التي أطلقها شيوخ النظام السابق "ثورة الشباب"... وبغياب المشروع الثقافي المتكامل عن "ربيع الثورات العربية". يُكثف الطاهر أمين في هذا المنجز يأسه وتشاؤمه المفرط مما يحدث في هذه الصحراء القاحلة في صورة كاريكاتورية شبه فيها "ربيع الثورات العربية" بشريط هوليودي: السيناريو مكتوب بإحكام، ولكن المونتاج الرديء الذي قام به عربي مهاجر، لا يسمح بالتوصل إلى أفكار جديدة، خاصة وأن المتطفلين والغوغائيين يتناسلون بفضل ما يسميه الكاتب "صحافة الدجل الثوري" المحرضة على وجود أكثر من كلب حراسة من أجل الإيهام بأنها في خدمة الثورة، وهي، أي صحافة الدجل الثوري، لم تخرج من مستنقع البحث في فضائح الانحطاط الأخلاقي لأنظمة الحكم السابقة التي كانت يحرص على تجميل قبحها. في خاتمة كتابه، لا يجد الطاهر أمين، بدا من تسريب بارقة أمل بعد أن يغرق قارئه في "طوفان تشاؤمي" ويحيلنا على سؤال جوهري على لسان أدونيس الذي كتب في مؤلفه "الثابت والمتحول" ليس الجوهري أن نصنع الثورة، بل الجوهري كيف نعيشها ونستخدمها، وفي أفق هذه الجوهرية يتحرك شيء من القلق والخوف: كيف نُبقي الثورة لخدمة الإنسان، لتفجير طاقاته، لتهيئة الإمكانات القصوى لتفتحه وتحرره؟.

بيتنا من الزجاج

عندما انتفضت الفئات المفقرة والمهمشة في المناطق المنسية وجدوا دور الاتحاد مفتوحة لهم، تحميهم من آلة البوليس وتشحنهم بالأغاني والأناشيد، وتمنحهم ما تيسر من حليب وماء وخبز... عندما ارتبك النظام السابق وحاول أن "يُقحم" الاتحاد في كرة النار التي أشعلها في البلاد، كان موقف النقابيين واضحا لا لبس فيه: ارحل أنت وعصابتك... فما عاد لك مكان بيننا... وعندما اخرج ذات النظام جوقته لحياكة مسرحية بائسة ليلة رقصته الأخيرة كانت دور الاتحاد تتأهب للإضراب العام الذي حول دماء الشهداء حبلا طويلا يلف رقبة رؤوس الفساد ليفروا فرادى وجماعات إلى وجهات متفرقة... دخلنا في انفلات امني، وتناسل المجرمون من السجون ومن الشوارع الخلفية لينهبوا ويحرقوا ويجعلوا الرعب خبزنا اليومي، فكانت دور الاتحاد فضاء للجان حماية الثورة وتجند أبناء الحامي وحشاد لدفع الخوف بعيدا عنا وتأجيج الأمل في الصغير قبل الكبير... قفزت الحكومة الأولى من جبة النظام الفاسد فوقف الاتحاد على الضفة الأخرى وقال أن لا مكان لمن تورط في قتل الأبرياء وتأبيد الظلم والاستبداد، ولم يقف الاتحاد صامتا أمام هذه الحكومة بل أشعل جذوة النضال لإسقاطها وإنهاء حلقة جديدة من المنظومة السابقة... جاءت حكومة الباجي قائد السبسي، بقرار فردي من فؤاد المبزع، ولم تكن هيبة الدولة إلا الحمار القصير الذي سيواصل مسيرة قطع الأفق الثوري الذي حلم به الشعب، فكانت مرة أخرى دور الاتحاد أرضا خصبة لمواصلة المد الثوري فكان الإعلان عن انتخاب المجلس التأسيسي وحل الحزب الحاكم سابقا وحل البرلمان ومجلس المستشرين... وكان أيضا للاتحاد الدور الايجابي في إمضاء اتفاقيات قطاعية هامة لفائدة العمال والموظفين... دخلت الأحزاب السياسية والقوائم المستقلة في سباق الانتخابات وتأججت حمى الوعود الطوباوية، فقرر الاتحاد أن يكون بمنأى عن هذا السباق، لإيمانه العميق بان دوره الحقيقي في هذه البلاد هو البعد الاجتماعي والاقتصادي، ولم يتأخر في ذات الوقت عن دعم كل نفس ديمقراطي... لإيمانه بان العدالة الاجتماعية لا تتحقق إلا في مناخ ديمقراطي مبني على الحوار لا على الإقصاء والاستحواذ بالرأي... انتصرت الأحزاب التي استباحت كل الوسائل، لتنقض على عنق البلد وتشرع في نسف ارث حضاري ومدني باسم الأغلبية، فاحترم الاتحاد هذا "الوهم" وواصل نضاله الميداني إلى جانب العمال والمهمشين والمحرومين، ديدنه في ذلك مبادئ رواده ومؤسسيه وما أتاحته الثورة من إمكانات جديدة لمراكمة المكاسب الاجتماعية والمادية لمنظوريه... ساهم بدستور اجمع الخبراء والجامعيون على عمقه وجدته وطرح مشروع مجتمعي مبني على العدالة الاجتماعية والتقسيم العادل لثروات البلد والفصل بين السلطات... واحترام الحريات الفردية والعامة... هكذا ظل الاتحاد العام التونسي للشغل يتحرك في بيت من الزجاج الناصع، لم يحترف لا المواربة ولا الإيهام، ولم يلق حجرا على أي طرف كان... غير أن الأوصياء الجدد على الشعب التونسي لم يتقنوا سوى إلقاء الحجر تماما مثلما يلقي الفاشلون أخطائهم على الغير... لن أقول بأن من يسعى لتهشيم زجاج بيت النقابيين ستدمى أقدامه، ولكن أقول بأن هذا البلد لا يحتاج إلا إلى بيوت من زجاج...