بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013/03/07

لا رئيس لي سوى راسي

يتردد الكاتب الحر سليم دولة على أماكن بعينها، لا تتبدل ولا تتغير، ومن السهل العثور عليه بزيه الرسمي: النظارات السوداء والمحفظة السوداء وملابسه السوداء أيضا. إن وجدته بمقهى "الروتوندا" بشارع الحبيب بورقيبة فلن يكون صديق طاولته سوى كتاب فلسفة أو رواية حديثة، وان صعدت إلى نادي الصحفيين فستجده منهمكا بمداعبة أزرار حاسوبه، إن تعديلا لبعض المقاطع الشعرية من ديوانه الجديد أو رقنا لشذرات فكرية... يتذكر سليم دولة يوم مولده فيقول "ولدت يوم 13 آذار من سنة 1953، وهو يوم مولد محمود درويش صديقي الذي لا يزور تونس إلا ويبحث عني...". جاء سليم دولة من الجنوب التونسي ليدق عنق الفلسفة (وفق عبارة لويس ألتوسير) في كلية 9 أفريل بالعاصمة، ويطلق منها، وهو بعدُ طالب، كتابه الأكثر مبيعا "ما الفلسفة" سنة 1987 ثم يجترح بعده "ما الثقافة" و"الثقافة والجنسوية الثقافية" و"الجراحات والمدارات" (91 تونس/93 بيروت/2008 سوريا) حتى لقبته جريدة "لوموند" الدولية بفيلسوف الصحراء... رغم أن سليم دولة حُرم من انجاز الدكتوراه حول "المكبوت الفلسفي في الأندلس:ابن باجة وابن طفيل وابن رشد" بعد أن تاه بين أروقة الجامعة والمؤسسة العسكرية بحثا عن شهادة إعفاء من خدمة الجيش!!! كانت كتبه تلك، وهي تدور في فلك الفلسفات مغربا ومشرقا، تتوهج مصطلحاتها وحكمها بصور الكلام العالي ومفردات المجاز المفرط في شعريته لتقوده نحو "كتاب السلوان والمنجنيقات" و"ديلانو شقيق الورد" ليثبت أن فيلسوف الصحراء هو أيضا شاعر الوجع الأممي... بعد أن كسرته الدنيا مثلما يتكسر الطيران في بعض الأجنحة... مثل العطر، سال حبره من الفلسفة، "زهرة العصور ووردة المدن" إلى الشعر "زهرة الصحاري ووردة الرمل"... متأبطا بصيرة أبو العلاء المعري وطه حسين وابن خلدون وابن حزم... في دربه الفلسفي والشعري... فيلسوف الصحراء، شاعر الوجع الأممي هو الكاتب الحر سليم دولة الذي أعاد نشر "كتاب السلوان والمنجنيقات" إمعانا منه في "تكسير أجمل ما في الدنيا وفتح أختامها وتقبيل أصابعها عضا..."، وهو "مكتوب" مُرسل رأسا إلى سامي الأزهر دولة في ضريحه الوطني، والى "صدام حسين المجيد" في شرفة شهداء الحرية وهما يطلان على "المتوغلين في الاحتفال بسفك الدماء"... موقف سليم دولة السياسي نعثر عليه بكل وضوح في كتاب "السلوان والمنجنيقات" (2008) عندما يكتب: "هذا المكتوب المصمقُ/في حبالفقراء.../وكراهية الملوك والسلاطين والأمراء/ ومن في هذا السياق من أعداء الأمة..." غير أن هذا الموقف جعل من جسد الرجل وخطواته فريسةللبوليس والقوادين مثلما يصفهم هو، إذ أن سليم دولة كان دائما عرضة للضرب والملاحقة وافتكاك الحاسوب الشخصي حتى بلغ الأمر بالنظام السابق إلى إحراق منزله سنة 2008 وإتلاف جانب كبير من مكتبته، وهي التي سطا عليها "صحافي المحترم" في نظر التجمع المنحل... ولم يسلم المخطوط الشعري لسليم دولة (حين كنت حيا مررت قرب حياتي)... وكأن هذا النظام يؤكد قول سليم دولة أن "في المنتظمات الماقبل حضارية يزدهر التبذير المفرط للعنف... وتتنازع الشوارع صفتي" الكسموفاجية" (أكلة الكون) و"الأنتروبوفاجية" (أكلة الإنسان). ولأن احتياطي العداء المفرط لحرية المشي فوق الأرصفة الآهلة بالأرجل والأعين قد تضخم حتى تورم فصار ورما يوميا لا يترك سليما يتحرك في دولته... في شارعه... في مقهاه أو حانته...في مكتبته أو بيته... لم يجد بدا من تأبط شعارا مركزيا يرفعه دوما في وجه المعتدين:"أيها المحتفلون بسفك دمي، توغلوا في الاحتفال فأنا الباقي وأنتم إلى زوال."... وهو الشعار الذي أكده سليم دولة عندما قال "لقد خسروا كل ما نهبوا في العهد النوفمبري وربحت كل خسارتي فشكرا لعربة الخضار وصاحبها المتجول محمد البوعزيزي الذي غيّر بقدحة نار في جسده خارطة الخضراء". ومن هؤلاء المعتدين على سليم دولة، إلى جانب الأحذية العسكرية المتنكرة في الجلود المدنية، عدد من "مثقفي البلاط" المستبسلين في حرمان سليم دولة من أية دعوة للمشاركة في هذا الملتقى أو تلك الندوة، ومن بعض الصحفيين، كذاك الذي سرق مكتبة سليم دولة (6 آلاف كتاب باستثناء المجلات والدوريات الفرنسية)، وهي الحادثة التي لا يستطيع سليم دولة نسيانها إلى جانب تلك الحادثة الطريفة مع وزارة الثقافة في تسعينيات القرن الماضي، عندما منحته الوزارة جائزة قيمتها (500 دينار) ولم يتسلمها سليم دولة، واضطر لإرسال عدل تنفيذ للطعن في التصريح الوزاري بمنحه جائزة، وقد وقف آنذاك إلى جانبه السيد المهدي مبروك وزير الثقافة الحالي، وحتى وزارة التربية، لم يسلم سليم من اعتداءاتها عليه، وهي وزارته، فقد قطعت مصالحها راتبه الشهري طوال ثمانية أشهر... و"لأنه أندر من الكبريت الأحمر" ومن " أكثر الكائنات تمرسا بالألم " وفقا للمعجم النيتشوي فقد كان سليم دولة على جاهزية استثنائية لتحمل الخسارات الفادحة في نظر العامة وذوي القربى من أحفاد سقراط الموظف، ولأنه – مثلما كتب عنه صديقه الشاعر آدم فتحي- "الوحيد الذي يصاب في ماله وجسده فيفكر في تلاميذه لعلهم يتخلفون عن برنامجهم الدراسي...وفي كتابه الأحدث لعله لا يكون الأخير"... لان سليم دولة لا يهمه إلا الحبر، فقد كتب في نصه الشعري المطول بعنوان "كليمنسيا الجميلة التونسية، قادحة الصوان الكونية": "هن الجميلات التونسيات يُكسرن حبا من يريد كسرهن في المنعطفات" وله كتاب ثان يتهجى طريقه إلى احد المطابع بعنوان "الربيع الهش" وهو عبارة عن رسالة مطولة إلى محمود درويش تتضمن النصوص الفكرية والفلسفية التي كتبها سليم دولة في السنوات الأخيرة. ومثلما يصف نفسه، سليم دولة "متلاف للوثائق" لكثرة تنقله من منزل إلى آخر لأنه من فصيلة "دمراويين" (دون مقر رسمي) كانت منازله التي تنقل إليها مكرها في كل الأحيان، كانت متشابهة في اغلبها:غرفة واحدة ومطبخ صغير وبيت استحمام، أم أثاثه فلا تعثر فيه إلا على الضروريات من قبيل السرير والطاولة والكرسي وبعض أواني الطهي، وما عدا ذلك فالفضاء مدجج بالكتب والمجلات والصحف، وبمخطوطات الشعراء والروائيين وكتاب القصة الذين يتنافسون في الفوز بملاحظات سليم دولة على كتاباتهم، والمحظوظ منهم من يفتتح كتابه بمقدمة سليم دولة/ الكاتب الحر (هكذا يمضي كتاباته) مثل كتاب "تفاصيل" للشاعر محمد الصغير أولاد أحمد، وكتاب الشاعر الراحل جمال الدين حشاد والشاعر الراحل أيضا عبد الحفيظ المختومي وكذلك كتاب شكري الباصومي والمجموعة الشعرية الكاملة للشاعر السوري هادي دانيال وكتاب العراقي علي حبش، ورواية حكيم عبادة وكتاب أبو بكر العموري... وأسماء أخرى مازالت مخطوطاتها تنتظر توقيع سليم دولة/الكاتب الحر. هو ذا سليم دولة أتهم في عقله ودينه وديانته وسرقت كتبه ومكتبته ومع ذلك ظل شامخا في دولتك التي يسميها " لن "...