بحث هذه المدونة الإلكترونية

2013/05/16

جولة ثانية من الحوار الوطني: هل تنزع النوايا الحسنة فتيل المواجهات المحتملة؟

بعد جولة أولى من الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل مختلف الإطراف السياسية والحقوقية والمدنية، يوم 16 أكتوبر 2012، وحضرها الرؤساء الثلاثة و43 حزبا و76 منظمة وجمعية، ورغم سعي الأطراف، التي تخلفت عن الجولة الأولى، إلى سحب البساط من تحت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل الوطنية بتعلة أن قبة المجلس الوطني التأسيسي هي الفضاء الوحيد والجهة المخول لها إدارة الحوارات الوطنية في خطوة أولى، ثم بتنظيم مؤتمر للحوار الوطني بإشراف رئاسة الجمهورية في مرحلة ثانية، وفي خضم ما تعيشه البلاد من أحداث التفجيرات الإرهابية في جبال الشعانبي، وإصرار "أنصار الشريعة" على عقد مؤتمرهم السادس "رغم أنف لطفي بن جدو" وزير الداخلية، وكذلك بعد قرار المحكمة الإدارية بإيقاف تنفيذ السلم التقييمي لاختيار المرشحين للهيئة العليا للانتخابات... وأمام الانزلاق الخطير لسعر الدينار... وفتح بورصة تونس للأوراق المالية حصتها باللون الأحمر... في خضم هذا الوضع، وفي نفس المكان (قصر المؤتمرات)، انطلقت جولة ثانية من الحوار الوطني، يوم 16 ماي 2013، حيث ارتكزت نقاشات الجولة الثانية بالخصوص على خمس نقاط أساسية تتمثل في إنهاء تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وتحديد تاريخ إنهاء وإصدار دستور يجسد مدنية الدولة ويؤسس للحقوق والحريات، وتحديد تاريخ إصدار قانون انتخابي، وتحديد أجل نهائي لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وأخيرا تنقية المناخ العام ونبذ العنف والإرهاب ومجابهته... وهي نقاط، حسب المشاركين، ستوفر الأرضية والظروف الملائمة لانجاز انتخابات ديمقراطية وتعددية ونزيهة وشفافة. نقاط جديدة تنضاف إلى جملة النقاط المطروحة في الجولة الأولى والتي من أهمها المطالبة بحكومة محدودة العدد لا يتحمل أعضاؤها مسؤوليات حزبية ولا يرشحون للانتخابات القادمة رئاسية كانت أم تشريعية، والرجوع عن التعيينات الحزبية، وتشكيل لجنة عليا للتشاور حول التعيينات الجديدة وفق مقاييس موضوعية، وحل كل اللجان والميليشيات والرابطات والمجموعات المنظمة، وكذلك الإسراع بكشف حقيقة كل أحداث العنف وحقيقة اغتيال الشهيد الوطني شكري بالعيد وتقديم، إلى جانب تحييد المساجد والنأي بها عن الصراعات السياسية والحزبية ومحاسبة كل الداعين للتكفير والتحريض على العنف، والتعجيل بتركيز الهيئة المستقلة للقضاء والهيئة العليا المستقلة للإعلام والهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وتفعيل ما تم الاتفاق بشأنه في العقد الاجتماعي الممضى بين الأطراف الاجتماعية ومعالجة الوضع الاجتماعي المتردي... وتأتي الجولة الثانية للحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد جملة من "التوافقات والاتفاقات" التي أثمرتها جلسات الحوار بقصر الضيافة بقرطاج والتي دامت قرابة الشهرين، وهي توافقات ستأخذ الهيئة المشتركة للتنسيق والصياغة بالمجلس الوطني التأسيسي بعين الاعتبار لها لتضمينها في مسودة الدستور الجديد... وشملت هذه الاتفاقات، النظام السياسي الذي سيكون مختلطا تتوازن فيه السلطات الثلاث وتراقب بعضها البعض إلى جانب منح رئيس الجمهورية صلاحيات رسم السياسات العامة والدفاع والأمن القومي والعلاقات الخارجية والقيام بتعيينات في الخطط السامية، كما نصت الاتفاقات على تضمين الدستور الجديد الحق النقابي والحق في الإضراب دون قيد أو شرط، وآخر التوافقات كانت حول الفصل 136 من الدستور الذي ينص على "أنه لا يمكن لأي تعديل دستوري أن ينال من الإسلام باعتباره دين دولة" وتم اختصار مضمونه على ألا يمس ذلك مضمون الفصلين الأول والثاني من الدستور. غير أن الاختلاف ما يزال قائما فيما يتعلق بشأن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء وخاصة نسبة تمثيلية القضاة صلبه... غير أن الخلاف الحقيقي، هو الحاصل بين مختلف الأطراف من جهة وحركة النهضة من جهة ثانية بخصوص حل رابطات حماية الثورة، وهي ربما النقطة التي سوف تكون عثرة الطريق في الحوار الوطني تحت خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل خاصة أن التقرير الختامي للاتحاد أثبت بالصورة والصورة تورط أعضاء رابطات حماية الثورة في الاعتداء على النقابيين وعلى بطحاء محمد علي يوم 4 ديسمبر 2012 يوم الاحتفال بستينية الاتحاد. وقد سبق لزعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، الإعلان يوم الأربعاء، 15 ماي 2013، أي يوما قبل انطلاق الجولة الثانية للحوار الوطني، أعلن راشد الغنوشي انه لا سبيل لحل رابطات حماية الثورة إلا عبر القضاء، وهو إعلان لا يُمكن أن يُفهم إلا في سياق تأزيم الحوار الوطني... رغم أن راشد الغنوشي سبق أن "صافح" زعيم حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي ضمن الحوار الوطني الاقتصادي الذي دعا إليه اتحاد الصناعة والتجارة، وهي المصافحة التي أثارت الكثير من الحبر والتعاليق الصحفية والسياسية وذهبت بعيدا في التأويلات والقراءات، ولكن الثابت أن هذه المصافحة "التاريخية" كانت نتيجة حتمية للدور الريادي الذي اضطلع به قياديو الحزب الجمهوري في تقريب وجهات النظر بين الحركتين (النهضة ونداء تونس)... ولكن إن كان حوار دار الضيافة سياسي ـ سياسي، وتحركه أجندات انتخابية بالأساس، فان الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل يتشابك فيه البعد السياسي بالبعد الاجتماعي، وهو ما يجعل الهوة أكثر عمقا بين الفرقاء السياسيين والأطراف الاجتماعية، وقد يجعل "المصافحة" بعيدة المنال خاصة بين زعيم الجبهة الشعبية حمة الهمامي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أو زعيم حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي، باعتبار أن الجبهة لا ترى في الحركتين إلا وجهان لعملة واحدة، وهي السياسة الليبرالية المجحفة والضاربة لدولة العدالة الاجتماعية... إن التوافقات الحاصلة بين مختلف الأطراف في الحوارات السابقة، هي توافقات هشة و"تكتيكية" بالأساس، ينتهي افقها مع بداية الانتخابات القادمة (إن حصلت) مع تركيز حكومة ذات شرعية انتخابية، ذلك أن "المقود" في يد حركة النهضة مثلما صرح بذلك راشد الغنوشي في إحدى خطبه الحزبية، كما أن "الانغراس" الوظيفي للمنتسبين لحركة النهضة في مفاصل الدولة ومؤسساتها سيكون حاسما في صندوق الاقتراع، إلى جانب دور رابطات حماية الثورة والجماعات السلفية التي ستتجند مثلما فعلت في انتخابات 23 أكتوبر لتدفع الناس إلى منح أصواتهم للحركة الإسلامية. أما حركة نداء تونس والأحزاب المتحالفة معها، فان التوافقات التي بلغتها مع حركة النهضة، هي الأخرى توافقات تكتيكية، ستنتهي بمجرد "الفوز"في الانتخابات، باعتبار أن "دولة البوليس"ستكون الحل الأمثل للتعامل مع الجماعات السلفية من جهة ومع الإضرابات العمالية من جهة ثانية... وفي الحالتين، فإن "الصراع" التاريخي بين المنظمة الشغيلة من جهة، والحزب الحاكم في الدولة، من جهة ثانية، سيظل قائما، أمام غياب المؤشرات الحقيقية الضامنة لدولة الرفاه الاجتماعي التي طالب بها الشعب المنتفض عن النظام السابق... ولعل في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت أكثر من دلالة على تباين المواقف بين الشقين، ففي خطابه ذكر بضرورة "خفض الاحتقان السياسي والاجتماعي"، معتبرا بذلك أن هذا الاحتقان سببا وليس نتيجة، وهي ذات النقطة التي اختلف فيها معه الاتحاد العام التونسي للشغل عندما طلب المرزوقي السنة الفارطة "هدنة اجتماعية"، كما أن مبدأ حرية التعبير والصحافة وردت في خطاب الرئيس المؤقت في إطار "اتهام صريح" إذ "أدان" ما أسماه "الاحتقان الإعلامي الذي لم يسلم منه إلى حد الآن أي طرف" معتبرا أن "الباب مفتوح على أخطر المغامرات"... رئيس الجمهورية المؤقت، وإن طالب برص الصفوف أمام تنامي ظاهرة التشدد الديني، فإنه قال حرفيا في خطابه "لا أفهم ولا أقبل أن تمنع فتاة منقبة من اجتياز الامتحانات الجامعية"، (وهي الجملة التي لاقت ردة فعل سلبية لدى الحضور) وهي أيضا نظرة لا تنم عن الخلفية الحقوقية للرجل، بل هي بالأساس تضرب في العمق القانون المنظم للمؤسسات التربوية، وتفتح المجال مجددا لانتهاك الفضاء التعليمي... إن تباين الرؤى والمواقف من القضايا الوطنية المعرقلة للانتقال الديمقراطي تجلت بشكل واضح من خلال "الإنشائية المفرطة" لأحزاب الترويكا بالأساس، في الوقت الذي أبانت فيه منظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للتجارة والصناعات التقليدية وبقية الأحزاب التي لم تشارك في حوار قصر الضيافة بقرطاج، أبانوا عن تصورات عملية وممكنة، على الأقل في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي، لعل أهمها إيقاف برنامج الإصلاح الهيكلي الجديد، وعدم عقد اتفاقات دولية ذات تأثير في المستقبل، وإيقاف كل الاتفاقيات والصفقات التي تم بمقتضاها البيع أو التفويت في الشركات والمؤسسات والأراضي، والدعوة إلى عدم خصخصة أي شركة أو مؤسسة عمومية، وتعليق تسديد الديون وتكوين لجنة تدقيق في شأنها، إلى جانب تجميد الأسعار ووضع آليات لمقاومة الفساد المالي والتهرب الجبائي... وغيرها من المقترحات العملية، كتلك التي طرحها السيد مصطفى الفيلالي في كلمته الشرفية في الجولة الثانية من مؤتمر الحوار الوطني، والمتعلقة بإنشاء وزير دولة خاص بمنطقة الجنوب لمنحها صلاحيات القرار الجهوي. بالأخير يظل الحوار الوطني، مهما اختلفت فضاءاته ومنظميه والداعين إليه والمشاركين فيه، يظل حوارا ممكنا وبناء إذا كانت أرضيته الأساسية تؤمن بشعار "إن كنا غير شركاء في الحكم فنحن شركاء في الوطن"، وهو الشعار القادر على سد الطريق على كل ما من شأنه أن يهدد سلامة الوطن وكرامة شعبه.

جولة ثانية من الحوار الوطني: هل تنزع النوايا الحسنة فتيل المواجهات المحتملة؟

بعد جولة أولى من الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل مختلف الإطراف السياسية والحقوقية والمدنية، يوم 16 أكتوبر 2012، وحضرها الرؤساء الثلاثة و43 حزبا و76 منظمة وجمعية، ورغم سعي الأطراف، التي تخلفت عن الجولة الأولى، إلى سحب البساط من تحت مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل الوطنية بتعلة أن قبة المجلس الوطني التأسيسي هي الفضاء الوحيد والجهة المخول لها إدارة الحوارات الوطنية في خطوة أولى، ثم بتنظيم مؤتمر للحوار الوطني بإشراف رئاسة الجمهورية في مرحلة ثانية، وفي خضم ما تعيشه البلاد من أحداث التفجيرات الإرهابية في جبال الشعانبي، وإصرار "أنصار الشريعة" على عقد مؤتمرهم السادس "رغم أنف لطفي بن جدو" وزير الداخلية، وكذلك بعد قرار المحكمة الإدارية بإيقاف تنفيذ السلم التقييمي لاختيار المرشحين للهيئة العليا للانتخابات... وأمام الانزلاق الخطير لسعر الدينار... وفتح بورصة تونس للأوراق المالية حصتها باللون الأحمر... في خضم هذا الوضع، وفي نفس المكان (قصر المؤتمرات)، انطلقت جولة ثانية من الحوار الوطني، يوم 16 ماي 2013، حيث ارتكزت نقاشات الجولة الثانية بالخصوص على خمس نقاط أساسية تتمثل في إنهاء تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وتحديد تاريخ إنهاء وإصدار دستور يجسد مدنية الدولة ويؤسس للحقوق والحريات، وتحديد تاريخ إصدار قانون انتخابي، وتحديد أجل نهائي لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وأخيرا تنقية المناخ العام ونبذ العنف والإرهاب ومجابهته... وهي نقاط، حسب المشاركين، ستوفر الأرضية والظروف الملائمة لانجاز انتخابات ديمقراطية وتعددية ونزيهة وشفافة. نقاط جديدة تنضاف إلى جملة النقاط المطروحة في الجولة الأولى والتي من أهمها المطالبة بحكومة محدودة العدد لا يتحمل أعضاؤها مسؤوليات حزبية ولا يرشحون للانتخابات القادمة رئاسية كانت أم تشريعية، والرجوع عن التعيينات الحزبية، وتشكيل لجنة عليا للتشاور حول التعيينات الجديدة وفق مقاييس موضوعية، وحل كل اللجان والميليشيات والرابطات والمجموعات المنظمة، وكذلك الإسراع بكشف حقيقة كل أحداث العنف وحقيقة اغتيال الشهيد الوطني شكري بالعيد وتقديم، إلى جانب تحييد المساجد والنأي بها عن الصراعات السياسية والحزبية ومحاسبة كل الداعين للتكفير والتحريض على العنف، والتعجيل بتركيز الهيئة المستقلة للقضاء والهيئة العليا المستقلة للإعلام والهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وتفعيل ما تم الاتفاق بشأنه في العقد الاجتماعي الممضى بين الأطراف الاجتماعية ومعالجة الوضع الاجتماعي المتردي... وتأتي الجولة الثانية للحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل، بعد جملة من "التوافقات والاتفاقات" التي أثمرتها جلسات الحوار بقصر الضيافة بقرطاج والتي دامت قرابة الشهرين، وهي توافقات ستأخذ الهيئة المشتركة للتنسيق والصياغة بالمجلس الوطني التأسيسي بعين الاعتبار لها لتضمينها في مسودة الدستور الجديد... وشملت هذه الاتفاقات، النظام السياسي الذي سيكون مختلطا تتوازن فيه السلطات الثلاث وتراقب بعضها البعض إلى جانب منح رئيس الجمهورية صلاحيات رسم السياسات العامة والدفاع والأمن القومي والعلاقات الخارجية والقيام بتعيينات في الخطط السامية، كما نصت الاتفاقات على تضمين الدستور الجديد الحق النقابي والحق في الإضراب دون قيد أو شرط، وآخر التوافقات كانت حول الفصل 136 من الدستور الذي ينص على "أنه لا يمكن لأي تعديل دستوري أن ينال من الإسلام باعتباره دين دولة" وتم اختصار مضمونه على ألا يمس ذلك مضمون الفصلين الأول والثاني من الدستور. غير أن الاختلاف ما يزال قائما فيما يتعلق بشأن تركيبة المجلس الأعلى للقضاء وخاصة نسبة تمثيلية القضاة صلبه... غير أن الخلاف الحقيقي، هو الحاصل بين مختلف الأطراف من جهة وحركة النهضة من جهة ثانية بخصوص حل رابطات حماية الثورة، وهي ربما النقطة التي سوف تكون عثرة الطريق في الحوار الوطني تحت خيمة الاتحاد العام التونسي للشغل خاصة أن التقرير الختامي للاتحاد أثبت بالصورة والصورة تورط أعضاء رابطات حماية الثورة في الاعتداء على النقابيين وعلى بطحاء محمد علي يوم 4 ديسمبر 2012 يوم الاحتفال بستينية الاتحاد. وقد سبق لزعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، الإعلان يوم الأربعاء، 15 ماي 2013، أي يوما قبل انطلاق الجولة الثانية للحوار الوطني، أعلن راشد الغنوشي انه لا سبيل لحل رابطات حماية الثورة إلا عبر القضاء، وهو إعلان لا يُمكن أن يُفهم إلا في سياق تأزيم الحوار الوطني... رغم أن راشد الغنوشي سبق أن "صافح" زعيم حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي ضمن الحوار الوطني الاقتصادي الذي دعا إليه اتحاد الصناعة والتجارة، وهي المصافحة التي أثارت الكثير من الحبر والتعاليق الصحفية والسياسية وذهبت بعيدا في التأويلات والقراءات، ولكن الثابت أن هذه المصافحة "التاريخية" كانت نتيجة حتمية للدور الريادي الذي اضطلع به قياديو الحزب الجمهوري في تقريب وجهات النظر بين الحركتين (النهضة ونداء تونس)... ولكن إن كان حوار دار الضيافة سياسي ـ سياسي، وتحركه أجندات انتخابية بالأساس، فان الحوار الوطني الذي دعا إليه الاتحاد العام التونسي للشغل يتشابك فيه البعد السياسي بالبعد الاجتماعي، وهو ما يجعل الهوة أكثر عمقا بين الفرقاء السياسيين والأطراف الاجتماعية، وقد يجعل "المصافحة" بعيدة المنال خاصة بين زعيم الجبهة الشعبية حمة الهمامي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أو زعيم حركة نداء تونس الباجي قائد السبسي، باعتبار أن الجبهة لا ترى في الحركتين إلا وجهان لعملة واحدة، وهي السياسة الليبرالية المجحفة والضاربة لدولة العدالة الاجتماعية... إن التوافقات الحاصلة بين مختلف الأطراف في الحوارات السابقة، هي توافقات هشة و"تكتيكية" بالأساس، ينتهي افقها مع بداية الانتخابات القادمة (إن حصلت) مع تركيز حكومة ذات شرعية انتخابية، ذلك أن "المقود" في يد حركة النهضة مثلما صرح بذلك راشد الغنوشي في إحدى خطبه الحزبية، كما أن "الانغراس" الوظيفي للمنتسبين لحركة النهضة في مفاصل الدولة ومؤسساتها سيكون حاسما في صندوق الاقتراع، إلى جانب دور رابطات حماية الثورة والجماعات السلفية التي ستتجند مثلما فعلت في انتخابات 23 أكتوبر لتدفع الناس إلى منح أصواتهم للحركة الإسلامية. أما حركة نداء تونس والأحزاب المتحالفة معها، فان التوافقات التي بلغتها مع حركة النهضة، هي الأخرى توافقات تكتيكية، ستنتهي بمجرد "الفوز"في الانتخابات، باعتبار أن "دولة البوليس"ستكون الحل الأمثل للتعامل مع الجماعات السلفية من جهة ومع الإضرابات العمالية من جهة ثانية... وفي الحالتين، فإن "الصراع" التاريخي بين المنظمة الشغيلة من جهة، والحزب الحاكم في الدولة، من جهة ثانية، سيظل قائما، أمام غياب المؤشرات الحقيقية الضامنة لدولة الرفاه الاجتماعي التي طالب بها الشعب المنتفض عن النظام السابق... ولعل في الكلمة الافتتاحية التي ألقاها المنصف المرزوقي رئيس الجمهورية المؤقت أكثر من دلالة على تباين المواقف بين الشقين، ففي خطابه ذكر بضرورة "خفض الاحتقان السياسي والاجتماعي"، معتبرا بذلك أن هذا الاحتقان سببا وليس نتيجة، وهي ذات النقطة التي اختلف فيها معه الاتحاد العام التونسي للشغل عندما طلب المرزوقي السنة الفارطة "هدنة اجتماعية"، كما أن مبدأ حرية التعبير والصحافة وردت في خطاب الرئيس المؤقت في إطار "اتهام صريح" إذ "أدان" ما أسماه "الاحتقان الإعلامي الذي لم يسلم منه إلى حد الآن أي طرف" معتبرا أن "الباب مفتوح على أخطر المغامرات"... رئيس الجمهورية المؤقت، وإن طالب برص الصفوف أمام تنامي ظاهرة التشدد الديني، فإنه قال حرفيا في خطابه "لا أفهم ولا أقبل أن تمنع فتاة منقبة من اجتياز الامتحانات الجامعية"، (وهي الجملة التي لاقت ردة فعل سلبية لدى الحضور) وهي أيضا نظرة لا تنم عن الخلفية الحقوقية للرجل، بل هي بالأساس تضرب في العمق القانون المنظم للمؤسسات التربوية، وتفتح المجال مجددا لانتهاك الفضاء التعليمي... إن تباين الرؤى والمواقف من القضايا الوطنية المعرقلة للانتقال الديمقراطي تجلت بشكل واضح من خلال "الإنشائية المفرطة" لأحزاب الترويكا بالأساس، في الوقت الذي أبانت فيه منظمات المجتمع المدني وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للتجارة والصناعات التقليدية وبقية الأحزاب التي لم تشارك في حوار قصر الضيافة بقرطاج، أبانوا عن تصورات عملية وممكنة، على الأقل في جانبيها الاقتصادي والاجتماعي، لعل أهمها إيقاف برنامج الإصلاح الهيكلي الجديد، وعدم عقد اتفاقات دولية ذات تأثير في المستقبل، وإيقاف كل الاتفاقيات والصفقات التي تم بمقتضاها البيع أو التفويت في الشركات والمؤسسات والأراضي، والدعوة إلى عدم خصخصة أي شركة أو مؤسسة عمومية، وتعليق تسديد الديون وتكوين لجنة تدقيق في شأنها، إلى جانب تجميد الأسعار ووضع آليات لمقاومة الفساد المالي والتهرب الجبائي... وغيرها من المقترحات العملية، كتلك التي طرحها السيد مصطفى الفيلالي في كلمته الشرفية في الجولة الثانية من مؤتمر الحوار الوطني، والمتعلقة بإنشاء وزير دولة خاص بمنطقة الجنوب لمنحها صلاحيات القرار الجهوي. بالأخير يظل الحوار الوطني، مهما اختلفت فضاءاته ومنظميه والداعين إليه والمشاركين فيه، يظل حوارا ممكنا وبناء إذا كانت أرضيته الأساسية تؤمن بشعار "إن كنا غير شركاء في الحكم فنحن شركاء في الوطن"، وهو الشعار القادر على سد الطريق على كل ما من شأنه أن يهدد سلامة الوطن وكرامة شعبه.